رغم مقولة الإمام مالك عن صفات الله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، لم يتوقف التساؤل والبحث في وقت ازدهرت فيه الدولة الإسلامية واحتضنت ثقافات بأصول وخلفيات متنوعة، كان لبعضها باع طويل في الفكر والفلسفة والأديان.
في عالم متعدد الثقافات، متنوع الأديان، ومليء بالمدارس الفكرية والفلسفية، كان لابد لمسائل الدين الجديد من أن تُتناول من زوايا متعددة. وعرفت الفلسفة الإسلامية فرقاً عديدة، إلا أن المشائين العرب كانوا أقربهم لجوهر التفلسف.
البحث في مسائل العقيدة الإسلامية
مع استقرار الدولة الإسلامية وتطوير قوتها العسكرية، مما ترافق مع ازدهارها اقتصادياً، بدأت السلطة في الإسلام تنحو ناحية التمدن، أو بالأحرى تدخل في طورها الثالث وفق تقسيم ابن خلدون؛ ذلك الذي يشمل على العمران والاهتمام بالثقافة والفكر.
واختلط الفكر والسياسية، فظهرت مذاهب دعمت السلطة، وأخرى عارضتها، كما ظهرت حركات دينية انفصالية، مثل الغنوصية التي اعتبرت نفسها أقدم ديانة على الأرض، وأصبحت الأفكار مهمة لاستقرار السلطة أو زوالها. والدولة العباسية كانت حركة فكرية تعارض الأمويين قبل أن تصبح حراكاً مسلحاً.
ويبين ذلك عبد الرحمن بدوي في كتاب "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية"، بأنّ المسلمين استعانوا بالفلسفة اليونانية، وعنوا "بإيجاد عالم من العلوم الدينية العقلية يشبه عالم العصر المدرسي في أوروبا في العصور الوسطى".
ويوضح فيصل عون في كتابه "الفلسفة الإسلامية في المشرق" هذا الصراع الفكري قائلاً: "شهدت البيئة العربية تيارات ثقافية متباينة: فهناك الفلسفة اليونانية، والديانات المسيحية واليهودية والفارسية .. إلخ، أضف إلى ذلك كله سيطرة الأعاجم على الأجهزة الثقافية في الدولة الإسلامية. وهذه التيارات أدلت برأيها في قضية الألوهية".
مشكلة الألوهية وصفات الله بين الإسلام واليونان
تأثر الفلاسفة المسلمون بأرسطو بشكل كبير في مسائل الألوهية، فبحثوا أدلة وجود الله، كما نظروا في صفاته وأسمائه، والوجود. ولم يقنعوا بالتصور الأول عن الله الذي كان سائداً خلال السنوات الأولى للإسلام.
ويوضح فيصل عون قائلاً: "إننا لا ننكر البتة أن الفلاسفة اليونانيين قد أثروا كبيراً في فلاسفة الإسلام، ولا يصح لنا أن ننكر أن نفراً منهم تابع اليونانيين فيما ذهبوا إليه".
وبشكل عام فإن مشكلة الألوهية من أهم القضايا الفكرية، في ظل عالم كانت الميتافيزيقا تُشكل تصوراته، ويقول علي النشار في كتابه "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": "مشكلة الألوهية من أعقد القضايا الميتافيزيقية وأقدمها، وعالجها الإنسان أولاً على الفطرة، ثم أخذ يتعمق فيها ويفلسفها".
ولم يختلف أغلب الفلاسفة على وجود الله، ولكن اختلفوا في صفاته وهيئته. وهو ما أكده مصطفى النشار في كتابه "فلسفة أرسطو"، حيث يقول "اتفق الفلاسفة اليونان بأن الله هو العلة الفاعلة للعالم، والمحرك الأول، ولكنهم اختلفوا في قضية الإيجاد والخلق".
الله في الفلسفة الإسلامية
يقول إبراهيم مدكور في كتابه "في الفلسفة الإسلامية"، بهذا الصدد: "لسنا في حاجة إلى أن نشير إلى أن السلف يصورون الألوهية تصويراً شبيهاً بذلك الذي قال به جماعة السابقين لسقراط، الذين رسموا آلهتهم على صورة من أنفسهم"، ولذلك نزّه الفلاسفة الله عن الصفات التي تتصف الموجودات بها كما قال ابن سينا.
ويرى الفارابي في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة": "أن الله ليس بمادة ولا قوامه في مادة ولا في موضوع أصلاً، بل وجوده خلو من كل مادة ومن كل موضوع، ولا أيضاً صورة؛ لأن الصورة لا يمكن أن تكون إلا في مادة"
الكون يبرهن على أن الله هو المحرك الأول والمحُدث الأول
قدمت دعوة النبي محمد إلى الإسلام براهين عديدة تثبت وجود الله، وأهمها الأدلة الكونية الظاهرة، التي ناسبت عقلية عرب الجزيرة. إلا أن هذه الأدلة لم تعد كافية في البيئة الثقافية الثرية الجديدة.
ويشرح فيصل عون في مرجعه السابق البرهان الكوني بقوله: "أوّل وأقدم البراهين على وجود الله هو البرهان الكوني؛ وهو الذي ينظر في الكون، ويركز على ظاهرة من ظواهره، كالزمان أو المكان أو الحركة، ثم ينتهي من ذلك كله إلى القول بضرورة وجود علة أو محرك أو موجود لا في زمان".
ويرى الفلاسفة أن الله هو هذا المحرك الأول. وبحث الكندي في "رسالة في وحدانية الله و تناهي جرم العالم" مسألة وجوب تناهي الجسم والحركة والزمان، ووجودهم جميعاً عن مُحدث أولي، حيث رأى أن الضرورة العقلية المنطقية تقول لنا أن لكل معلول علة، ولكل مسبب سبباً، فإذا كان العالم حادث من جهة حدوث الأجسام كلها، فإن الحدوث يعني البداية، وينبغي أن نسلم بوجود المبدئ الأول، ألا وهو الله.
وتابع الغزالي هذا الدليل في كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد"، حيث يشير إلى أنّ "كل حادث لحدوثه سبب، والعالم حادث، فيلزم منه أن له سبباً".
الله هو غاية ما يحدث في الكون عند الكندي
يبرهن الكندي على وجود الله بما يراه في الكون من نظام وإتقان، ويوضح أن وجود الكيفيات المتغيرة للمادة لا تنبع بدون علة أو غاية، ويخلص إلى أن الله هو العلة والغاية الأولى، ويقول في رسالة "الإبانة عن العلة الفاعلة"، "في نظم العالم وترتيبه، وفعل بعضه في بعض، وانقياد بعضه لبعض، واتقان هيئة الكل على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد، وثبات كل ثابت، لأعظم دلالة على أتقن تدبير".
الفارابي وابن سينا يدركان الله من خلال المنطق الخالص
يقول فيصل عون في مرجعه السابق: "نجد أن الفارابي سعى إلى إدراك الله من خلال الوجود الفكري، من خلال الوجود المنطقي الصرف، ولهذا بدأ تقسيم الوجود إلى ممكن، وواجب بغيره، ثم واجب بذاته".
فالشيء قبل أن يخرج إلى حيز الوجود كان ممكناً، ثم بعد أن خرج إلى الوجود أصبح واجباً، وهناك اختلافٌ بين الوجود الذي لم يكن ثم كان، وبين ذلك الكائن بصفة دائمة، بحيث لا نتصور عدمه وهو الله، وبهذا اختلف الفارابي عن الكندي حيث لم يدرك الله من خلال الكون المحسوس بل من خلال المنطق، وواجب الوجود بذاته هو الله.
ويقول الفارابي في "عيون المسائل": "الأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولاً، ولا يجوز أن تكون على سبيل الدور، بل لابد من انتهائها إلى شيء واجب الوجود هو الموجود الأول الذي لا علة لوجوده، ولا يجوز كون وجوده بغيره، وهو السبب الأول لوجود الأشياء".
وقد ذهب ابن سينا مثل هذا المذهب فقال في كتاب "إلهيات الشفاء"، "ونحن نعرف واجب الوجود بذاته معرفة أولية من غير اكتساب، فإننا نقسم الوجود إلى الواجب والممكن؛ ثم نعرف أن واجب الوجود بذاته يجب أن يكون واحداً".
وتابع الغزالي نفس الدليل في كتاب "معارج القدس"، حيث يقول: "أن الموجود إما أن يكون: واجب الوجود أو ممكن الوجود، والممكن يتعلق بغيره وجوداً ودواماً، والعالم بأسره ممكن الوجود فيتعلق بغيره، وهو الواجب".
الغزالي يُفند قول الفلاسفة بأن الله لم يخلق العالم من العدم بل فاض وصدر عنه
جوهر نظرية الفيض والصدور هي أن الله لم يخلق العالم من العدم، بل إنه فاض وصدر عنه. فالله يعشق ذاته أكثر ما يعشق كما بيّن الفارابي، وعن تعقله لذاته فاض عنه عقل ثانٍ يحرك الفلك، وهكذا دواليك يتأمل العقل الصادر ذاته وذات الله، ثم يصدر عنه عقل تالٍ، حتى نصل إلى العقل الفعال الذي يدبر فلك القمر، وهو ما صدر عنه العقل الإنساني والصورة والمادة، مما يشكل عالمنا المحسوس؛ حيث أن الله لا فعل له إلا تعقل خالص لذاته، لسموه عما سواها.
ثم لما كان الله واحداً فلا يجوز أن تصدر الكثرة عنه، إنما يصدر عنه عقلاً واحداً، وتصدر الكثرة أي العالم عن العقل العاشر كما بين ابن سينا والفارابي.
وينقل هنري كوربان عن ابن سينا في كتابه "تاريخ الفلسفة الإسلامية" رؤيته للعقل الفعال، كما يلي: "ليس لدى العقل العاشر الطاقة لكي يولد بدوره عقلاً واحداً ونفساً واحدة. وانطلاقاً منه يتفجر الفيض؛ في كثرة الأنفس البشرية، في حين تصدر المادة عن البعد الظلي، تلك المادة التي تؤلف فلك ما دون القمر".
لكن الكندي خالف غالبية الفلاسفة المسلمين بقبوله بمبدأ خلق العالم من عدم. وذكره كوربان قائلاً: "يعتبر الكندي في قبوله لمبدأ الخلق عن لا شيء أن إبداع العالم هو من فعل الله، وليس العالم بصادر عن الله بالفيض".
ويعتبر الغزالي أشهر ناقد لهذه الحجج في كتابيه "تهافت التهافت" و"الاقتصاد في الاعتقاد"، فيقول في التهافت: "إن الزمان حادث ومخلوق، وليس قبله زمان أصلاً، ونعني بقولنا أن الله تعالى متقدم على العالم والزمان أنه كان ولا عالم، ثم كان ومعه عالم".
ويشرح فيصل عون في مرجعه: "ثم يقرر الغزالي أن الله يفعل كل ما في العالم، وأن الإيجاد والإعدام بإرادة الله، فإذا أراد الله شيئاً أوجده، وإذا أراد إعدام شيء أعدمه، وهو في كل ذلك لا يتغير جل شأنه، فالعالم حادث لكن بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وُجد فيه."
الله لا يهتم بالعالم لأنه تعالى عن إدراك ما دون ذاته
يرى الفلاسفة أن الله جل شأنه لا يهتم بغير ذاته، حيث يفرقون بين ذاته وبين ما يصدر عن تأمله وتعقله، فكما أوضح أرسطو وتابعه الفلاسفة فإن الله لما كان كاملاً وعقلاً خالصا فإنه لا يهتم بالجزئيات. ويقول ابن سينا في كتاب "النجاة في المنطق والإلهيات" بهذا الخصوص: "ومن تعقله لذاته يعقل مبادئ الكل، أعني يعقل الكليات لا الجزئيات".
ويضيف فيصل عون عن هذه الفكرة: "على ضوء ذلك رفض الفارابي القول بأن الله يدرك الجزئيات مباشرة، وكان رأيه أن الله يدرك الكلي الثابت".
ويختلف الغزالي عن الفلاسفة ويرى أن الله كلى العلم بالكليات والجزئيات، ويقول في كتاب "الأربعين في أصول الدين": "إنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجرى في تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء".
هل يمكن للعقل البشري القاصر إدراك الله الكامل؟
يرى الفلاسفة صعوبة إدراك الإنسان لله، لأن الإنسان محدود بإدراك الظواهر، ومعرفته محدودة بالعالم المحسوس. وينقل إبراهيم عاتي في كتابه "الإنسان في الفلسفة الإسلامية" عن الفارابي قوله: "يصعب إدراك الله بسبب ما نعانيه من نقص وضعف وبسبب ملابستنا للمادة"، ويرى الفارابي أننا نقترب من إدراك الله كلما بعدنا عن المادة، وارتفعنا فوق المحسوس، وارتقينا نحو العقل.
حامد فتحي