أتى العيد، عيد ميلاد المسيح بالجسد. وعلى الرغم من كلّ ما يحدث في بلادنا من مآسٍ، أتى العيد. العيد يأتي، وسوف يأتي في أوانه. لن يؤخّر مجيئه أيّ حدث طارئ أو مستمرّ من جيل إلى جيل.
أتى العيد، كما يأتي صاحبه في الأزمنة الأخيرة. هل يمكننا أن نمنع ظهور المسيح في كلّ عيد؟ أليس هذا هو مشتهانا أصلاً؟ هل يمكن أحدنا أن يطلب إلى المسيح تأجيل ظهوره؟ لذلك، عند حلول العيد، نعيّد مهما كانت الظروف والأزمنة. هو يظهر علينا في العيد، فنعيّد ونفرح، لا من أجله، بل من أجلنا نحن. هو ليس في حاجة لـمَن يعيّد له لأنّه هو العيد. لكنّنا نحن في حاجة إلى العيد كي نفرح بخلاصنا الذي تمّ بواسطته.
سوف نعيّد مهما كان زماننا جائرًا. وهل ثمّة عصر لم يكن فيه الزمان جائرًا؟ هل عهد الإمبراطوريّة الرومانيّة التي شهدت أعتى الاضطهادات أفضل من عهد الاستبداديّين الحاليّين؟ ومع ذلك كان المسيحيّون يجتمعون في كلّ وقت يسبّحون الله ويمجّدونه بفرح كبير. في عهد ديوكلسيانوس، آخر مضطهِدي المسيحيّين، كان المسيحيّون يواجهون الاستشهاد بشوق كبير لأنّه كان معبرًا إلى الحياة مع الربّ. أمّا أوّل مَن كرّمته الكنيسة وأعلنته قدّيسًا وبنت المعابد على قبورهم فكانوا من الشهداء.
المسيحيّون لم ينقطعوا عن الأعياد في أيّ زمن من الأزمنة: زمن الدياميس والدهاليز والسراديب، زمن الاضطهادات التي جعلت المسارح الكبرى مذابح يُقدّم فيه المسيحيّون ولائم للأسود والحيوانات المفترسة. وتحكي لنا بعض الروايات والأقاصيص عن الرجاء الذي كان يحيا عليه العديد من معتَقَلي الغولاغ زمن الاتّحاد السوفياتي، حيث نرى في بعض الشهادات مقدار الإيمان الذي تحلّى به بعضهم، فزاد تمسّكهم بإيمانهم وبما ينتظرهم في خاتمة النفق.
سوف نعيّد وإن كنّا نازحين أو مهجّرين أو بدون عنوان ثابت، فعنواننا هو وجهنا. سوف نعيّد وإنّ كان عدد ضحايا الحروب الناشبة في ديارنا بلغ مئات الآلاف... سوف نعيّد على الرغم من وجود داعش ومشاريع الفتن المذهبيّة الضاربة هنا وثمّة. أمّا هويّتنا فهي أنّنا كلّنا أبناء الله، مسيحيّين وغير مسيحيّين، صنعنا على صورته ومثاله. يولد المرء وارثًا هويّة أبويه، وهي هويّة فاسدة لأنّها متحوّلة ومتغيّرة. يولد المسيحيّ في المعموديّة فتصبح هويّته المسيح نفسه: "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم". لذلك، ثمّة خروج صريح عن المسيحيّة حين تعلو الهويّة الوطنيّة أو القوميّة لدى الناس على الهويّة الإنسانيّة الجامعة.
لا بدّ من التنويه، هنا، بأنّ المسيح قد قضى على الحصريّة العبريّة للخلاص، ففتح الباب على مصراعيه أمام الأمم كافّة كي تدخل في الخلاص. صرنا كلّنا، بفضل المسيح، مدعوّون من كلّ الأمم كي ننال الخلاص. أمّا اليوم، فيثيرنا هذا الجدل الذي لا طائل منه: ما هي هويّة المسيح الأصليّة؟ يهوديّ أم فلسطينيّ أم آراميّ أم عربيّ أم سوريّ أم لبنانيّ؟ هذا لا يهمّ المسيح، وتاليًا لا يهمّنا، لا من قريب ولا من بعيد. هو خارج الحدود الجغرافيّة واللغويّة والتاريخيّة التي تريد حصره في جانب واحد من جوانب حياته. فالمسيح هو الكلّ في الكلّ فلماذا الإصرار على اختزاله وحصره ؟
هو الكلّ في الكلّ. فلنعيّد شاكرين.