أظهرت أرقام ووقائع على الأرض أن تعويل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على حجج، من بينها محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في يوليو عام 2016، لتبرير عدم انعكاس نسب نموّ اقتصادي تبدو كبيرة على المستهلكين الأتراك، لم يعد منطقيا وسط غضب شعبي عام.
وتبدو تركيا واقفة عند نقطة صعبة في مسيرتها الاقتصادية والسياسية أيضا، إذ لا يفهم مسؤولون أتراك كبار الأسباب الحقيقية وراء عدم انعكاس نسب النمو، الظاهرة في الأوراق والمستندات الرسمية، في صورة سلع وخدمات حقيقية في أيدي الأتراك العاديين.
وبدأت الشكوك تساور الأتراك بشأن تأكيدات الحكومة المستمرة بأن الاقتصاد بدأ يميل نحو الازدهار، رغم الحملة واسعة النطاق التي يقودها أردوغان ضد معارضين وموظفين وضباط في الجيش وأساتذة جامعيين، بتهمة دعم جماعة فتح الله غولن.
ويقول مارك بنتلي، مدير مكتب وكالة بلومبرغ السابق في تركيا، “هنا تكمن ورطة الرئيس أردوغان الذي وجد نفسه عالقا فيها بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا وتفاخرا بتسجيل الاقتصاد المحلي لمعدل نموّ سنوي بلغت نسبته 11.1 في المئة في الربع الثالث من هذا العام، وهو ما اعتبره دليلا على قوة الأداء الاقتصادي وازدياد معدلات الرخاء في تركيا تحت قيادته”.
ومع اقتراب الانتخابات المقرر إجراؤها في 2019، بات على الحكومة أن تتعامل مع الواقع الذي يقول إن المستهلكين الأتراك أصبحوا أكثر تشاؤما بشأن المستقبل، وهو وضع يتناقض كثيرا مع وضع نظرائهم من المستهلكين في أوروبا ومعظم الاقتصادات الكبرى.
وبينما يحقق المصدرون أقصى استفادة ممكنة من الانخفاض الحاد في سعر الليرة، وجد المستهلكون أنفسهم الفئة الأكثر تضررا من موجة غلاء نتجت عن ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، ما حدّ من قدرتهم الشرائية بصورة ملحوظة.
ويقول محللون أتراك إن الناس العاديين باتوا غير قادرين على تصديق مزاعم الرئيس التركي، في ظل انتشار الفساد الحكومي والمحسوبية وانسحاب الرئيس داخل دائرة مغلقة من مساعديه الذين يحظون بثقته المطلقة، منذ تعديل الدستور وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي في شهر أبريل الماضي.
ولجأ نظام الحكم التركي إلى قواعد حزب العدالة والتنمية لترويج رؤى أردوغان في الأقاليم البعيدة والمدن الكبرى التي تتسم بطابع علماني. ورغم حملات تم استثمار الملايين من الدولارات فيها، ظلت عقدة الركود الاقتصادي قائمة في الشارع.
وانعكس التناقض الكبير الذي يشهده التوسع الاقتصادي في تركيا بشكل واضح على البيانات المتعلقة بإنتاج ومبيعات السيارات، التي صدرت هذا الأسبوع، باعتبار أن مبيعات السيارات دائما ما تستخدم كمؤشر على اتجاه السوق وثقة المستهلكين والميل إلى الإنفاق بوجه عام.
وتظهر الأرقام أنه في حين أنتجت الشركات التركية لصناعة السيارات أكثر من مليون سيارة في أول 11 شهرا من العام، وهو رقم قياسي، انخفضت المبيعات المحلية بشكل ملحوظ. وفي نوفمبر وحده، انخفضت معدلات المبيعات السنوية بنسبة 21 في المئة، وهو أكبر هبوط هذا العام، بينما انخفضت مبيعات عام 2017 ككل بنسبة 4 في المئة.
وعلى الرغم من ذلك، أشاد وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي في مقابلة مع وكالة أنباء الأناضول الرسمية الثلاثاء الماضي بـ”أداء رجال الصناعة في البلاد”، مؤكدا أن “حجم الناتج من القطاع الصناعي والصادرات يشير إلى أنه من المحتمل أن تفوق تركيا توقعات النمو الاقتصادي للربع الأخير من العام المالي”.
وبذلك يصبح أردوغان محصورا بين أهداف السياسة المتضاربة والمتمثلة في إبقاء أسعار الفائدة منخفضة بما يكفي لتحفيز الاقتصاد (المزيد من النمو)، والحيلولة دون انخفاض قيمة العملة المحلية من أجل إبقاء التضخم تحت السيطرة (الانكماش التصحيحي).
ويقول المحلل التركي يحيى مدرا، في مقال نشره موقع “أحوال” تركية الصادر باللغات التركية والإنكليزية والعربية، إن “الانكماش التصحيحي يتعارض مع حسابات أردوغان السياسية قصيرة الأجل. فمستقبل أردوغان السياسي يعتمد على فوزه في الانتخابات المحلية والعامة والرئاسية التي ستجرى في عام 2019، إن لم يكن قبل ذلك. ويعتقد أردوغان، شأنه شأن الكثير من المعلقين السياسيين، أن مفتاح النجاح في الانتخابات هو الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي”.
وأضاف “أي زيادة محتملة في أسعار الفائدة من أجل الحيلولة دون انخفاض قيمة العملة ستؤدي إلى تباطؤ في الاقتصاد. أردوغان يعتقد أنه لا يمكنه تحمل تكلفة تلك المخاطرة”.
ويفسر فهم أردوغان للاحتقان الكامن تحت السطح في المجتمع تمسكه بحالة الطوارئ التي مازالت تحكم المجتمع.
ولكن حالة الطوارئ هي أيضا أحد الأسباب التي تدفع المستثمرين إلى التفكير مرتين قبل الاستثمار في تركيا. وباتت صورة أردوغان العامة كسمعة في أوساط المستثمرين هي أنه “رجل يعشق المغامرات”.
كما تعطي حالة الخلل الاجتماعي التي تمر بها تركيا انطباعا وسط هذه الأوساط بأن القرارات يتم اتخاذها يوما بيوم وواحدا تلو الآخر تفاعلا مع كل أزمة جديدة تظهر.
ويقول مدرا “بعد انتخابات السابع من يونيو 2015 التي حصد فيها حزب الشعوب الديمقراطي ستة ملايين صوت، شعر أردوغان بأنه ضعيف بما فيه الكفاية لحمله على الاتفاق مع فصائل بعينها من الجيش والقضاء. ومنذ ذلك الحين ينتهج أردوغان ما أسماه كارل شميت (1888-1985)بـ’الدكتاتورية الجماهيرية’ في تركيا”.