يحدث أن نُصادف أشخاصاً يبدّلون فينا أشياء لا نفهمها. من حزنهم، من مأساتهم يستيقظ فينا ذاك الشعور بالامتنان على نِعَم لم نعرف قبلهم قيمتها. «أبو طنوس» كما يناديه أهل الحي في الدكوانة، هذا الرجل الثمانيني الذي أثقلته السنوات والأحزان والوحدة، يمرّ عليه العيد مرهِقاً، موقِظاً فيه حسرة على من تركاه يعيّد وحيداً وذهبا الى حيث لا فقر ولا تعاسة ولا ظلم، وحيداً مع شمعته ومسبحته، وحيداً مع إنجيله ومقتنعاً بأنّ «عيش الفقير تحت سقف من ألواح، خيرٌ من الأطعمة الفاخرة في دار الغربة».
خربته الصغيرة شكّلت له موطناً، فيه فقط شعر بمعنى الانتماء، فهنا حيطان أربعة تحميه من برد الشتاء، وقوت يمدّ جسده النحيل بالطاقة ليحارب ظلم الدنيا، وباب يبعد عنه جشع البعض وطمعهم حتى بِمَن لا يملك شيئاً.
يجلس على مقعد خشبي، هو أريكته نهاراً وسريره ليلاً، مُعتذراً عن الإنارة الخفيفة في المنزل: «في لمبة وحده بَس بالبيت مَحطوطه بين «الأوضه» والمطبخ بتمشي بَس عَا كَهربة الدولة، ولَمّا تِنقطِع ما بعود لَحّق شموع»، كلمات معدودة تعبّر عن حال مزرية يعيشها رجل كهل في بلاد تكرّم السارقين وتهين الأبرياء، لكنّ أبو طنوس (81 عاماً) لا يحتاج تبرير غياب الإنارة عن منزله لأن لا أحد يزوره أساساً، حتى أعَزّ أقربائه.
وقد تكون إحدى أصعب المواقف رؤية رجل ثمانيني يبكي، ويقول: «أوقات بقعد بفكّر بوَضعي، اليوم بعد فيّي إمشي ودَبّر أموري، بس بكرا إزا عجزت ومرضِت شو بيصير؟ بموت بقلب البيت وما حدا بيدرَا فيّي»، ويضيف لـ«الجمهورية»: «ما حدا بيطَلّع فيّي، مَكسور عليي قسط إيجار البيت ومش قادر دَبّر مصاري وخيفان إنكَبّ بالشارع، لأن بالنهاية صاحب الملك رح يفتش عا مَصلحتو».
صور وذكريات
يستذكِر أبو طنوس عائلته الصغيرة التي تركته، إذ إنّ الحياة لم تتمسّك بابنه أكثر من 24 سنة خَدمه خلالها والداه نظراً لكونه من ذوي الإحتياجات الخاصة «بسبب غَلطة حكيم»، بحسب الوالد، أمّا زوجته فلم تَقو على مصائب الحياة فتركته يتخبّط وحيداً ورحلت منذ نحو 5 سنوات، ولم يبق منهما سوى الذكريات وبعض الصور التي لا صديق له غيرها.
أمّا بالنسبة لليلة العيد، فلا تختلف عن غيرها من الليالي في عمر أبو طنوس، فجلّ ما يفعله فَتح تلفزيونه الصغير في حال أكرَمته الدولة بكهربتها، خصوصاً أنه لا يحب أن يكون ضيفاً ثقيلاً على أحد، ويقول: «اليوم، اللي عندو معاش عم يبكي، فكيف حالتي أنا؟»، مضيفاً: «كيس الرز يكفيني شهراً، ولستُ بحاجة لمساعدات عَينية، وإنما مساعدة مالية لأسدّد مستحقات الإيجار والكهرباء وغيرها».
يجمَع ما تيسَّر له
على أرصفة الشوارع، وبين السيارات، يسير هذا الرجل المحدودب الظهر، جارّاً خلفه كيساً كبيراً، يجمع فيه ما تيسَّر له من أكياس نايلون وعبوات تَنكية أكرمتها عليه النفايات، يجلس عليها ليُريح جسده تارة، ويكمل مسيرته الشاقة نحو أحد المعامل ليبيعها طوراً. فأبو طنوس اعتاد الشقاء، في بلدٍ لم يشعره إلّا بالغربة.
لكنّ في عيد الميلاد، لا تنفع مطالبة الدولة بالنظر الى من هم مثل أبو طنوس، فبالنسبة لهم ذلّ «الشحادة» أفضل من تكرار الكلام على مسمع الصمّ... إلّا أنّ قصته تفتح العيون على آلاف الأغنياء الذين باتوا سنة خلف أخرى يفقدون معنى العيد الحقيقي، فيخالون أنه بالثياب الجديدة والأشجار المضاءة والهدايا الفاخرة، مُتناسين أنّ من يحتفون بعيده أوصَى بالفقراء وذَكّر مراراً أن «مَن يَرحَم الفَقيرَ يُقرِضُ الرَّبَّ، وَعَن مَعروفِه يُجَازيه».
«الله يساعد اللي ما عِندو حدا»، عبارة لم يتوقف أبو طنوس عن تردادها، هو لا يطلب المستحيل، كل ما يريده ألّا يقضي الأيام المتبقية له مذلولاً.
أبو طنوس وأمثاله هم العيد، هم من ستفتح السماء لهم أبوابها أولاً، لأنّ الدنيا وإن كانت ظالمة بحقهم إلّا أنها لم تستطع إفلات المسبحة والإنجيل من أيديهم... يمضون العيد وحيدين على أمل أن يجدوا من يُظهر لهم أنّ الله موجود على الأرض، ومتجسّد في قلوب البعض.