القصّ الشعبي غالباً ما يرسم ماهية المعالم الأخلاقية في المجتمع، أي أنه يقدم معالجة لتجاوز المقبول والخطوط الحمراء في مغامرات أبطال قصصه، ثمّ يعيد ترتيب القوانين التي تحكم حياة الناس بصورتها الشعبية بعيداً عن رسمية المحاكم وقوانينها.
ولطالما نجد شخصية "المرأة" في سيناريوهات عن عاقبة الشر والخطيئة، على رأسها دون شك، الحبكة التي تتكرر باستمرار في سياقات مختلفة، والتي تلعب فيها المرأة دور جنية تظهر بأبهى حلّة، وتغوي الرجال بجمالها، قبل أن تدفع بهم إلى الهلاك.
يتجلى ذلك بوضوح في قصة "ليليث" التي تحولت صورتها من ساكنة للجنة وشريكة لآدم، إلى آلهة للريح والظلام، وإلى رمز للغواية والخراب، ولكن ما هو شكل هذه الجنية في التراث العربي؟ ولماذا تنتشر في ثقافتنا الشعبية؟
في الريف والصحراء والبحر... احذر "الندّاهة" الفاتنة
إن تكرار ظهور جنية أو مخلوق خرافي على هيئة امرأة فاتنة الجمال ترتدي فستاناً أبيض، تجذب وتغوي الرجال بجمالها، كما يقول الدكتور سميح شعلان، أستاذ الفلكلور والأدب الشعبي، تعتبر تراثاً عالمياً نجده في القصص الشعبية العربية والأجنبية.
ولكن لها تجلياتها الخاصة في الثقافة العربية، منها أسطورة "الندّاهة" في مصر، على سبيل المثال، التي يختلف تناولها من مكان لآخر محلياً. ففي المناطق الريفية، كما يضيف شعلان لرصيف22، تظهر وسط المزارع والحقول وتنده على الرجال كل حين، و أما في المناطق الصحراوية والبدوية يشار إلى "صفير الرياح" على أنه صوتها، ونفس الأمر قرب شواطئ البحار.
صوتها نذير شؤم، فحوادث خطف وقتل واختفاء وأحياناً جنون، بحسب المعتقد الشعبي، كانت الجنية النداهة سببها.
كما يشير شعلان إلى إنّنا نجد نفس ملامح الخرافة في بلاد المغرب، لكن تحت اسم "عيشة قنديشة"، أو "لالة عيشة" أو "عيشة السودانية"، وهي جنية فاتنة تظهر بجوار البحيرات أو المستنقعات، تطلب مساعدة الرجال المارة، ومن يلبي النداء يلقى حتفه!
وفي منطقة دول الخليج العربي، تظهر أسطورة مشابهة، عن جنية هي "أم الدويس"، أو "أم الصبيان"، وهي مخلوق مسخ، يظهر كما في الأساطير السابقة، على شكل امرأة فاتنة الجمال، عادة في الليل، تغري الرجال وتخطف الأطفال، وغوايتها للرجال، كما في بعض القصص، تتطور إلى علاقات جنسية.
المرأة والغواية، وحيرة المجتمعات الذكورية تجاههما
لعلّ الإغواء أو الغواية لغوياً تعني التضليل أو الإبعاد عن الطريق، وتشير عادة إلى الإغراء الجسدي في سبيل الحصول على متعة جنسية. لكن لماذا وصمت المرأة في الفلكلور والأدب الشعبي بالإغواء جنسياً؟ يبرر شعلان ذلك بأن الثقافات القديمة كانت تحيد المرأة باعتبارها رمزاً للجمال، وتحصرها في مفهوم محدد للأنوثة، غالباً من وجهة نظر ذكورية.
فيما يرى الدكتور حسن الخولي أستاذ الأنثوربولجيا، في حديثه لرصيف22، أن ذلك تجسيدٌ حقيقيٌ لفترات سيطرة وتسيد الرجل في المجتمع، والتي انعكست على الفلكلور، مشيراً إلى أن القاصّ أو "الحكواتي" في الغالب يكون رجلاً، ومعظم من في مجلسه أيضاً من الرجال، لذلك ينحاز إلى إرضائهم وإثارتهم، فيرفع الخطأ عن الرجال من جهة، ويقدم قصصاً مثيرة عن غواية المرأة بالمقابل.
ويضيف، إن السلطة الذكورية سيطرت على المجتمعات منذ القدم، وأطلق عليها مجتمعات "أبوبية" وهو ما نحن مستمرون عليه إلى الآن، فكل شيء ينسب إلى الرجل، الشرف والفضيلة والأخلاق، كما ينسب لهم الأطفال، فيما تعرضت المرأة إلى القمع وخضعت لأشد الضوابط في المجتمع الأبوي. فوصم المرأة بالغواية وربط الشهوة بالهلاك، هي إحدى طرق السيطرة عليها.
الاعتماد على ثيمة "الخطيئة الأولى"
وفي السياق ذاته، عرضت بعض المعتقدات الدينية قصصاً للمرأة في مواقف عدة، أشهرها دورها في بداية الخلق، التي ترسخت في وجدان ووعي الأفراد، ووصمت المرأة بالإغواء وجرّ الرجل للخطئية.
فسرت المختصة في الأدب الشعبي أسماء عبدالرازق، في بحثها "سيرة المرأة في القصص الشعبي والأساطير العربية"، الأمر بأن هذه الأساطير مبنية على أسفار الخلق والتكوين مثل أسطورة توحد المرأة مع الحية والشيطان، وإدانة حواء بتهمة إخراج آدم من الجنة. كما أشارت إلى أن القصص التي تكوّنت بعد ذلك، استمرت بسبب شعبيتها وارتباطها بتفاصيل من الواقع، فمثلاً يُقال بأن المرأة معاقبة من الله بـ"آلام الحيض والولادة" وبالتالي استخدمت هذه الضرورة الجسدية كدليل ومبرر لاخضاعها واتهمامها بالخطيئة.
ولكن هناك فصل بين النظرة الإسلامية لقصة الخلق والقصة التوراتية، لابدّ من شرحه ولو باختصار: ففي الإصحاح الثالث من سفر التكوين وردت القصة كما يلي: "فرأت المرأة أنّ الشّجرة جيّدةٌ للأكل، وأنّها بهجةٌ للعيون، وأنّ الشّجرة شهيّةٌ للنّظر. فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل". ولكن ما قد يغفله البعض أنّ سردية خروج حواء وآدم من الجنة في القرآن الكريم، وتفاسيره، مختلفة.
فكما ورد في سورة البقرة، في الآيتين 35 و36، "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين/ فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين". أي أنّ القصة في صيغتها الإسلامية، حملت آدم وحواء مسؤولية مشتركة، وبمعنى آخر، الإسلام لا يتبنّى فكرة "الخطيئة الأولى"، ولا يميز بين آدم وحواء في هذا السياق.
ولكن الغريب أن القصص الشعبي لم يتشرب القصة الإسلامية، بل مال بدلاً من ذلك إلى السرد التوراتي الذي يحمل حواء ثقل الخطيئة، والذي كان مؤثراً في الثقافات العربية وغير العربية، حيث اعتمدته قصص مختلفة عن شراكة الشيطان والمرأة في إغواء الرجل.
أما في شرح أسباب شعبية هذه الصورة، يوضح الخولي أستاذ الأدب الشعبي، أن التباين في نظرة المجتمع للجنس قد يكون أحد الأسباب، حيث أن الجنس فخر للرجل ووصمة عار تلحق بالمرأة، وهو ما ساعد في انتشار أي خرافة أو أسطورة لها علاقة بإغواء المرأة للرجل.
كما يرى الخولي أن تكرار هذه الصور النمطية في الفلكلور والأدب الشعبي، يؤدي إلى تثبيتها بصورة واعية أو غير واعية في النظرة العامة للمجتمع، وذلك بدوره يعمل على تكريس التمييز تجاه المرأة.
أصل الأسطورة، هل هو عربي أم أجنبي؟
عن أصل الأسطورة، وورودها في ثقافة عدة، يقول شعلان إن هناك نظريتين—في دراسة التراث والثقافة الشعبية بشكل عام— الأولى، نظرية "عناصر الثقافة المرتحلة"، أي أن هجرة أفراد وجماعات من مكان لآخر، ينقل القصة سماعياً أو شفوياً من موطنها الأصلي، إلى منطقة أخرى، حيث تروى من جديد بشكل وحلة مناسبة للمجتمع الجديد، ويتم تحويرها وتهيئتها لتتوافق مع عناصر بيئتها الجديدة، فيكون التغيير في الأسماء وبعض الأماكن أما الهيكل السردي للقصة ومغزاها يكون ثابتاً.
أما المقاربة الثانية، تتبنى فكرة توارد الأفكار أو ما يعرف بـ"النشأة المستقلة"، وعنها يقول شعلان: "أنّ الإنسان بطبيعته يحب الحكايات والخيال، والقصة اختلقت نتيجة تفكير الإنسان، وحدث توارد بين أكثر من شخص حول فكرة واحدة وكل منهم ممثلة للصورة الرائجة في ذهنية العامة في هذا التوقيت عن المرأة".
صورة المرأة هي نتاج خيال القاصّ أو اعتماده على نماذج من حياة واقعية، وعلى أشهر وسائل المقاربة "التنميط"، وفي هذه الحالة، اعتمدت فكرة الإغواء كقرين للمرأة، فاجتمع في أسطورة الجنية، ما هو سائد من قيم وتصورات ثقافية واجتماعية داخل المجتمع. كما يقول الخولي.
مشيراً إلى أن الأفكار والأساطير النمطية تختفي تدريجياً إذا حلّ تغيير في المجتمع في مجال المساواة، والانفتاح على أنساق ثقافية أخرى.
"قالت الراوية"، الحكايات الشعبية من وجهة نظر جديدة
في تجربة فريدة، لمشاريع منظمة مركز المرأة والذاكرة، تم تنظيم مشروع "قالت الراوية"، الذي قامت من خلاله مجموعة مختلفة من الباحثات والباحثين المصريين بتجميع الفلكلور والقصص الشعبية لكن من منظور واعِ جندرياً، من أجل إعادة كتابة الحكايات الشعبية من وجهة نظر "المرأة"، وكما يشير موقعها الرسمي: "هذه الحكايات التي تعرض لوجهة نظر المرأة تحاول خلق صورة مغايرة لتلك الصور السائدة عن المرأة، كما أنها تعمل على تمكين النساء عن طريق عرض أدوار ونماذج إيجابية للمرأة، كي تظهر في تلك الحكايات والقصص الخيالية".
واعتمدت المؤسسة على النصوص الشعبية العامية، ونصوص ألف ليلة وليلة، وذلك عبر جلسات وورش عمل وأمسيات، أعادت صياغة القصص الشعبية، كما تلا ذلك محاولات لإعادة كتابتها من جديد في إصدارات عدة كان من بينها: قالت الراويات…ما لم تقله شهرزاد (2007)، وحكايات حورية (2003)، وقالت الراوية (1999)، إلى جانب كتب الأطفال، وهي: حكايات فريدة (2007)، وحكايات الأيام السابعة للشاطر والشاطرة (2002)، وست الشطار (2002)، ومصباح علاء الدين (2002).
مع تناول التمييز في مجتمعاتنا وإعادة النظر في تكريس الصور النمطية للمرأة والمناداة بالمساواة، هل تختفي الجنية من أرجاء عالمنا العربي، وتبقى حبيسة الذاكرة والخرافة؟
صورة المقالة من فيلم "بيولف" الذي يقدم من التراث البريطاني، صورة المسخ الذي يتجلى بشكل امرأة فاتنة الجمال تغوي الملوك.