قد يكون لافتاً تأمل تصاعد نمو إجماع عربي إسلامي دولي ضد الولايات المتحدة في شأن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. فالحراك العام ضد واشنطن قدم سابقة عجيبة تقاطعت داخلها جامعة الدول العربية في القاهرة وقمة المؤتمر الإسلامي في إسطنبول واجتماع مجلس الأمن، لتأكيد عزلة المقاربة الأميركية وجعلها فعلا هامشيا في السياق الدولي العام.
وإذا ما كانت بعض المواقف المزايدة العالية النبرة كتلك التي صدرت عن طهران وأنقرة تندرج من ضمن لعبة التناقض بين إيران وتركيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، فإن تلك التي صدرت عن بقية العواصم تطرح أسئلة جدية عن سرّ هذا الإجماع غير المسبوق ضد إدارة أميركية، وعن سرّ ذلك الحراك الأممي بشأن قضية أعتُقد أنها باتت منسّية غائبة عن أولويات العالم، لا سيما منذ اندلاع “الربيع” العربي.
جاء رد الفعل الرسمي الفلسطيني مفاجئا لجهة الرفض الحاسم والسريع لقرارات ترامب، واعتبار أن الأمر يُخرج، حسب تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الولايات المتحدة من وظيفة الرعاية الوحيدة للعملية السلمية، وينزع عن واشنطن صفة الوسيط في الإشراف على ترتيب مسائل المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما ضبط إيقاع العلاقة المتوترة بين رام الله وتل أبيب.
لم تتجاوز حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي وبقية الفصائل الفلسطينية السقوف المقبولة، رغم الضجيج الذي يفرضه منطق الشارع. وبدا أن الجميع تموضع خلف أبومازن توسلاً لمخارج الرد المناسب، فيما لم يغامر أيّ طرف في الزعم بقدرته على إنتاج انتفاضة ثالثة، أو حتى مجرد الدعوة لها.
رفضت السلطة الفلسطينية استقبال نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، وراح نبيل شعث مستشار عباس للشؤون الخارجية، وهو العارف والخبير بكواليس اتفاق أوسلو وما بعد أوسلو، والذي يعتبر شخصية اعتدال ووسطية، يوحي علنا أن لا أحد في فلسطين يريد لقاء بنس ولا أحد يريد واشنطن وسيطا لأي عملية سلام مقبلة.
وفي ذلك ما لفت إلى تلك الدينامية الجديدة التي تحرك قيادة السلطة في مواجهة واشنطن، وما طرح أسئلة عمّا إذا كانت رام الله تملك معطيات تدفعها لكسر الجرة بهذا الشكل مع أكبر دولة في العالم ما زالت تتربع رغم صعود المنافسين على قمة النظام الدولي برمّته.
على أن تحرّك العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بين العواصم الإقليمية وتلك في أوروبا تجاوز حدود ردّ الفعل التقليدي، إلى ما يشبه حالة تمرّد تقوم بها عمّان على واشنطن التي لطالما اعتبرت حليفا تاريخيا للأردن وللعائلة الهاشمية.
أمكن للمراقبين أن يلاحظوا بسهولة أن حركة الشارع في الأردن كانت بتشجيع واضح من قبل أجهزة السلطة، فيما بدا أن انتقال العاهل الأردني إلى اسطنبول بعد ساعات على قرار ترامب، ثم بعد ذلك حراكه بين الرياض وباريس والفاتيكان، يعبّر عن غضب أردني من الحليف الأميركي الذي لم يأخذ في الحسبان مصالح حلفائه في المنطقة، ولم يقدّر حجم الضرر الذي تسببه تلك الخطوة على موقع الأردن كمشرف على المقدّسات الإسلامية في القدس الشريف.
ورغم أن الموقف المصري بقي منضبطا وفق قواعد دبلوماسية هادئة، فإن ذلك الصادر عن الأزهر الشريف وعن الكنيسة القبطية في رفض استقبال نائب الرئيس الأميركي أثناء زيارته (التي تم تأجيلها) إلى مصر، وفّر واجهة حقيقية لطبيعة المزاج العام المصري إزاء الخطوة الأميركية حيال القدس. وفيما اتسق موقف القاهرة مع الخطّ العربي والإسلامي الرسمي المُعبّر عنه في اجتماعيْ القاهرة واسطنبول، إلا أن تقديم مصر لمشروع قرار داخل مجلس الأمن يهدف إلى إبطال قرارات ترامب، نبّه إلى سلوك تنتهجه القاهرة قد يمثّل شغبا مفاجئا ضد الولايات المتحدة وضد ترامب شخصيا.
ويفصح الغضب الذي بررت به نيكي هايلي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، استخدام الفيتو ضد القرار المصري، حجم الامتعاض الذي تشعر به واشنطن جرّاء العزلة التي ظهرت من خلال تصويت كافة بقية أعضاء مجلس الأمن لصالح هذا القرار.
لكن بعيدا عن المعطيات المصرية التي دفعت القاهرة لتقديم مشروع القرار، وعن المعطيات الأردنية الفلسطينية التي تفسر حراك الزعيمين الأردني والفلسطيني رفضا لقرار ترامب ودفاعا عن وضع مدينة القدس، فإن بعض المعلومات تتحدث عن أن الحراك العام الذي تطور باتجاه إنتاج مزيد من الإحراج لواشنطن بنقل مشروع القرار المصري من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ينهلُ قوته من تململ يسود الدولة العميقة في الولايات المتحدة إزاء الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأميركي.
وتستند تلك المعلومات إلى حقيقة أنّ المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية الأميركية التي واكبت الرؤساء الأميركيين في السنوات التي تلت تصويت الكونغرس عام 1995 على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حرصت على الدفع دائما باتجاه تعليق تنفيذ قرار الكونغرس وفق بند تعطيلي داخل هذا القانون يتيح للرئيس تأجيل التنفيذ كل ستة أشهر إذا ما كان ذلك التنفيذ يمثّل خطرا على الأمن القومي الأميركي.
ووفق معطيات أميركية فإن الدولة العميقة الأميركية التي تقصّدت السهر على عدم العبث بمسألة حساسة كوضع مدينة القدس، ترى في قرار ترامب تجاوزا غير مقبول لمصالح الولايات المتحدة، وتشويها خطيرا لسياسة واشنطن إزاء الصراع في الشرق الأوسط، كما يمثّل تهوّرا يطال الأجندة الأميركية في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق لجهة مواجهة الإرهاب والتمدد الإيراني في المنطقة.
توحي هذه المعطيات أنّ تقاطعاً ما بين الدولة الأميركية العميقة والعواصم الحليفة تقليديا للولايات المتحدة أتاح رشاقة في تحرك عمّان والقاهرة ورام الله لمحاصرة ما بدا أنه خيار تبنّاه دونالد ترامب مدفوعاً من لوبيات عائلية وعقائدية مسيحية. وتقول المعلومات إن خطوة ترامب تتناقض، تماما، مع أبجديات السياسة الخارجية لواشنطن وقواعد الأمن الاستراتيجي الأميركي.
وتستنتج منابر أميركية مطلعة أن تأجيل زيارة بنس للمنطقة وركاكة الأسباب التي بررت ذلك التأجيل، يعبّر عن جدل صاخب يدور داخل كواليس القرار الأميركي ظهر جليّاً في محاولات وزارتيْ الخارجية والدفاع تفسير القرار ومحاولة محاصرته بمسألة أن الحدود داخل القدس تبقى خاضعة للمفاوضات. فيما سرّبت الصحافة الأميركية تبرّماً من حسابات ترامب وبنيامين نتنياهو الضيقة وقصورها عن إدراك التحديات الكبرى التي تجتاح الشرق الأوسط والتي لا تحتمل تمرير ما سبق لواشنطن أن رفضت تمريره في عهود أقل قسوة ودموية من ذلك الذي يمر بالمنطقة هذه الأيام.
وقد يكون من المخاطرة استشراف مآلات الجدل الدولي الحالي حول خطوة ترامب، لكن خطيئة ترامب بشأن القدس قد تُضاف إلى مجموعة خطايا ارتكبها الرجل في ملفات أخرى في الولايات المتحدة، لا سيما شبهة تواصله مع روسيا وارتباط ذلك بانتخابه رئيساً، والتي قد تصل التحقيقات بشأنها إلى نهايات قد تطيح به وتخرجه من البيت الأبيض. على أن الصخب المستمر خارج الولايات المتحدة بشأن ما ارتكبه ترامب بشأن القدس قد يرفد لأسباب داخلية أميركية ذلك الهمس المتصاعد الذي يدور خلف الأبواب لحسم مصير ترامب في البيت الأبيض خلال عام 2018 المقبل.