منذ لقاء كليمنصو الثلاثي، الذي جمع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، بدا واضحاً حجم استعادة جنبلاط دوره السياسي الفاعل في الأزمات واللحظات المفصلية. مجدداً، يثبت جنبلاط أنه حاجة الجميع، وضرورة القوى المختلفة. بمعزل عن حجمه، وقدرة تأثيره العددي، وبمعزل عن العلاقة به، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، فيها كيمياء أم مفقودة، إلا أن الرّجل يملك ثقلاً معنوياً يدفع خصومه إلى استمالته قبل حرص حلفائه على الاحتفاظ بحسن العلاقة معه. هي علاقة جنبلاط الثابتة مع موقعه ومع الأزمات. فحين تعصف الرياح، يجد الجميع أنفسهم أنهم يحتاجون إلى استمالة الرجل. في استمالته يتحقق دفع معنوي. لا ينكر خصوم جنبلاط قدرة تأثيره على الشارع العام وليس على شارعه فحسب. لذلك، هم يعتبرون أنه إذا ما اتخذ جنبلاط موقفاً مؤيداً لطرف ما، فإن موقف هذا الطرف يتعزز، لا سيما أن خاصيّة "رادارات" جنبلاط لها وقعها على الساحة الداخلية.
لذلك، عند كل عقبة، أو في لحظة استحقاق داهم ومهم، يستعيد جنبلاط نشاطه، بعد انكفاء صوري وإعلامي، يمسك بمختلف الخيوط، ويعرف أي خيط قابل للشّد، وما هو قابل لإطالته أكثر. يقول سياسي بارز لدى سؤاله عن سرّ الزيارات الكثيفة لقيادات سياسية إلى كليمنصو، إن جنبلاط كان الأساس في استباق التصعيد السعودي، وفي وأد مشروعاً قبل أن يولد وكاد يفجّر البلد. لم يكن يقصد السياسي ما كشف عن لقاء جنبلاط بمستشار بهاء الحريري، صافي كالو، بل يعتبر أن جنبلاط استبق ذلك أيضاً، حين رتّب لقاء كليمنصو الثلاثي مع الحريري وبري، وأوجد الصيغة الملائمة، لمنع استقالة الحكومة وتفجير الوضع. وفي ذلك اللقاء، الذي كان جنبلاط سعى إليه، بناء على ما التقط من إشارات تصعيدية، تم وضع الخطّة المتحسبة لأي طارئ، والتي سار عليها الجميع حين أعلن الحريري تقديم استقالته.
لهذا السبب وغيره، يستمرّ تحوّل كليمنصو إلى محجّة للسياسيين في الفترة الراهنة، وآخرها زيارة الوزير جبران باسيل، ثم الرئيس الحريري. وقد غرّد جنبلاط: "مع الشيخ سعد الحريري تاريخ طويل من النضال المشترك، من المحطات المشرقة من اجل لبنان واستقراره ونهوضه. اليوم التحدي الذي نواجهه أكبر بكثير من الماضي. والتكاتف والتضامن معه ومع رؤيته الاصلاحية أكثر من ضروري من أجل تثبيت مسيرة العهد الذي اثبت صلابة وشجاعة عالية في الظروف الاستثنائية". وأضاف إن الملف الاقتصادي والمالي كان الحاضر الأبرز وبكل صراحة على طاولة المشاورات بينهما.
هي علاقة جنبلاط الأزلية مع الأزمات، ما إن تطلّ أزمة حتى يكون أول من في الواجهة. فلم يخرج اللقاء مع الحريري عن محور اللقاء مع باسيل، حيث حضرت ملفّات ثلاثة أساسية، الملفّ الساخن وهو مرسوم ترقية ضباط دورة العام 1994، والانتخابات النيابية، والوضع الإقتصادي والمالي والنقاش في خطة الحريري لإعادة الإعمار، والتي تشير مصادر متابعة إلى أن لدى جنبلاط بعض الملاحظات عليها، وقد أبلغها إلى الحريري بشكل صريح ومباشر.
في ملف المؤسسة العسكرية، تكشف المصادر عن دور بارز لجنبلاط كان قد بدأ باكراً وبصمت، مع كل من الرئيس بري وحزب الله، ومع الرئيس الحريري من جهة ثانية. وهذا ما عجّل اللقاء مع باسيل، حيث عمل رئيس الحزب التقدمي على تقريب وجهات النظر، على قاعدة احترام الدستور والمناصفة، وإيجاد حلّ شامل لملفات مختلف الضباط في فترة الحرب الأهلية. وتشير المصادر إلى أن جنبلاط بقي على دعمه لموقف بري، في وجوب احترام العرف والدستور، مع العمل بهامش أوسع لإيجاد مخرج للأزمة. إذ عمل على إقناع الحريري بالتريث بتوقيع المرسوم إلى حين إيجاد الحلّ الملائم. وأبلغ ذلك إلى بري. وكان على تواصل مفتوح مع حزب الله. وتلفت المصادر إلى أن هذا الملف سيسلك طريق الحلّ، على قاعدة ارضاء الجميع، وإن حصل ذلك بشكل تراتبي أو على دفعات، بحيث يسوّى وضع مختلف الضباط.
أما في ملف الانتخابات، فتلفت المصادر المتابعة، إلى أن الرجلين تمسّكا بالتفاهم في ما بينهما، والحفاظ على التحالف الاستراتيجي في بيروت والجبل والمناطق الأخرى. وأكد جنبلاط للحريري أنه يفضّل حصول ائتلاف واسع وشامل في الجبل يضم مختلف القوى السياسية، خصوصاً التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. وتكشف المصادر أن جنبلاط سيضطلع بدور يتخذ صفة المبادرة لتقريب وجهات النظر بين التيار والقوات، ولتحسين العلاقة بين القوات والمستقبل تمهيداً لحصول هذا التفاهم.
والجانب الأهم، وفق ما غرّد جنبلاط، كان النقاش الصريح للوضع المالي والاقتصادي، إذ أكد للحريري أن الوضع المالي للدولة على شفير الخطر. لذلك، يجب تدارك الموضوع، لا سيما في ظل زيادة منسوب الانفاق مقابل عدم توفير إيرادات موازية لذلك. ما ينذر بأزمة إقتصادية كبرى على المديين المتوسط والبعيد، إذا لم يتم إيجاد حلّ لذلك. وتلفت المصادر إلى أن جنبلاط لا يتعاطى مع الموضوع بعفة أو طوباوية، ولا من باب الكلام الشعبوي عن الفساد، بل هو يعني ما يقول، لأن الأرقام تنذر بخطر محدق. لذلك، يجب استباق تداعيات أي انهيار مالي أو إقتصادي.