أصبح مرئياً وثابتاً أن إستراتيجية التخريب التي اتّبعتها إيران في خمسة بلدان عربية عادت عليها بما تعتبره نفوذاً ومكاسب. وبنت إيران منظومة دفاع عن نفوذها قوامها ميليشيات مذهبية منبثقة من المجتمعات التي تهيمن عليها بالعسكرة والترهيب، إضافة إلى قوى «رديفة» تتشكّل من تنظيمات كـ «القاعدة» و «داعش» وماشابههما. لذلك يتأكّد، في المقابل، أن أي إستراتيجية للحدّ من هذا النفوذ وتفكيكه تتطلّب تخريباً مضاداً لا بدّ أن يحصل في تلك البلدان نفسها طالما أنها منكوبة بالتدخّل الإيراني، لكنها لن تحقّق أهدافها إذا لم يصل التخريب إلى إيران ذاتها وما لم تستشعره داخلها. وبما أن إستراتيجية دونالد ترامب تنحصر في «الإطار الديبلوماسي»، وفقاً لما صرّح به وزير دفاعه جيمس ماتيس، فمن شأنها أن تطمئن طهران إلى أن جلّ ما ستواجهه خطبٌ من النوع الذي ألقته نيكي هايلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، لتعرض أدلة على أن الصاروخ الحوثي فوق مطار الرياض كان إيرانياً «في شكل لا يمكن إنكاره»... ثم، ماذا بعد؟ لا شيء. ولا حتى تلويح بعرض الأمر على مجلس الأمن.
لذلك كان رد الفعل من جانب السعودية والإمارات والبحرين مرحّباً أولاً بما كشفته واشنطن، إلا أنه طالب بـ «ضرورة اتخاذ إجراءات فورية» لمحاسبة النظام الإيراني على «أعماله العدوانية»، وبـ «التصدي بقوة أكبر للتهديد الذي تشكله إيران»، التي تنتهج «سلوكاً توسعياً مزعزعاً للاستقرار» وتؤجّج «نيران العنف الطائفي» فضلاً عن دعمها «الإرهاب وتدريب الإرهابيين وتأسيس جماعات إرهابية»... كان ذلك معبّراً عن أن بطء الخطوات الأميركية وتردّدها وغموضها لا تتناسب أولاً مع لهجة الخطاب الأميركي نفسه، ولا تتناسب ثانياً مع توقعات الدول المراهنة على «حزم» أميركي، بل إنها لا تتناسب خصوصاً مع سرعة إيران في تحقيق العديد من الأهداف التي حدّدتها مسبقاً، سواء في سورية أو العراق واليمن.
وفيما يقول الوزير ماتيس أن الولايات المتحدة لا تعتزم الردّ على إيران «عسكرياً»، وهو أمر معروف، يتضح أيضاً أن «الوسائل الديبلوماسية» ليست مواتية ولا متوافرة، أي أنها غير فاعلة. إذ تتطلّب توافقات بين أميركا وكلٍّ من روسيا والصين من جهة، لكن التباعد يواصل الاتساع في ما بينها، بفعل الاتصالات الملتبسة لرجالات ترامب مع الكرملين وتقلّب مزاجه حيال بكين. بل تتطلّب من جهة أخرى انسجاماً يبدو مفقوداً مع معظم الدول الأوروبية المؤثّرة، بسبب فوضى الخيارات والقيود الترامبية في السياسات الدفاعية والتجارية... لذلك فإن أي محاولة أميركية لعرض ملف التهديدات الإيرانية على مجلس الأمن تجازف بالاصطدام بهذه الدول الغاضبة أو المستاءة، والأرجح أن يعرّضها «فيتو» روسي أو صيني لفشل ذريع. ومع أن إدارة ترامب تحتاج بشدّة إلى الحلفاء الأوروبيين، إذا كانت جادّة فعلاً في البحث عن «تحالف دولي» لمواجهة إيران، إلا أن تطابق المواقف الأميركية– الأوروبية إزاء الممارسات الإيرانية قد لا يكون دافعاً كافياً للحلفاء كي ينضمّوا إلى تحالف، إذ إنهم انخرطوا غداة الاتفاق النووي في بناء مصالح «بزنسية» مع طهران ولا يريدون أن يخسروها في مشروع أميركي غير واضح المعالم ولا يثقون بآلياته إنْ وجدت ولا بجدوى تحركاته الراهنة أو أهدافه البعيدة المدى.
في ضوء هذه الحسابات قد تبدو إيران أكثر قوةً ديبلوماسياً من الولايات المتحدة، فالذين يدعمونها مستفيدون دائمون من مواجهتها المستديمة مع أميركا، ومن نفطها الرخيص وحاجاتها العسكرية والتجارية، لا ينتقدون سياساتها ولا يرون تهديداتها ولا يلومونها على تدخّلاتها، بل إن روسيا تفاخر بمحاربة «داعش» إلى جانب إيران وميليشياتها، أما الصين فأدخلت أخيراً قوات خاصة إلى سورية لمحاربة إرهابيين من مسلمي الإويغور، وبالتالي فإن هاتين الدولتين لا تعتبران إيران داعمةً للإرهاب، وعند الاقتضاء لن تتردّدا بمجاراة إيران بالقول إن «لا دليل» على تدخّلها في اليمن. أي أنهما لن تتوانيا في إقفال مجلس الأمن أمام أي حملة لإدانتها، كما فعلتا بالنسبة إلى سورية.
من هنا إن اقتصار سعي واشنطن على «فضح ما تقوم به إيران»، واعتباره أمراً مفيداً «لتوعية» المجتمع الدولي، قد يبدو ساذجاً. فحتى الآن لم تشعر إيران بأي إزعاج لمشاريعها الرئيسية. كانت تخشى تقارباً أميركياً- روسياً رغب فيه ترامب وفلاديمير بوتين لكنه تلاشى. ومع أنها افتقدت الأوقات الطيّبة التي أمضتها مع إدارة باراك أوباما والمكاسب المهمة التي وفّرتها لها وحصّنتها، غير أن إدارة ترامب مكّنتها وتمكّنها من اختبار التشدّد الأميركي وقدرتها على مواجهته وتمرير أهدافها رغماً عنه، وحتى إثبات تهربه من التورّط معها. صحيح أن في إيران دولة وثورة ومؤسسات تعمل بتماسك أيديولوجي أقرب إلى السوفياتي والكوري الشمالي، إلا أنها في سياستها الإقليمية «لادولة» وأقرب إلى الجماعات المسلحة المتفلّتة والإرهابية التي ترعاها، ولذلك فهي نشرت على الأرض في سورية والعراق واليمن ولبنان أوضاعاً مطابقة لانتشارات «داعش» لكن أكثر قوّةً وفاعلية وأكثر اندماجاً بالمجتمع. وكما احتاجت الولايات المتحدة في محاربة «داعش» في سورية إلى قوّة برّية وجدتها لدى الأكراد، فإنها في توجهها إلى تقليص النفوذ الإيراني تحتاج إلى قوّة مماثلة لن تجدها هذه المرة عند الأكراد أو مَن يشابههم.
أدركت الإدارة الأميركية الحالية باكراً ثلاثة معطيات تتعلّق باليمن: 1) أن الحسم يكون عسكرياً أولاً ثم سياسياً، و2) أن الحوثيين جماعة إيرانية طردت الحكومة الشرعية وسيطرت على العاصمة، و3) أن اليمن ممرٌ ضروري للحدّ من الأخطار على الخليج ووقف التوسّع الإيراني. لكنها لم تبدّل السياسة التي انتهجتها إدارة أوباما، حتى مع الانكشاف الكامل للطبيعة المتوحّشة للحوثيين، وكأنها تشاطر هؤلاء تفضيلهم لاستمرار الصراع. وبرهنت هذه الإدارة من خلال اتصالها مع روسيا إدراكها استحالة القضاء على الإرهاب في سورية والحلّ السياسي للأزمة بوجود بشار الأسد ونظامه إلى جانب إيران وميليشياتها، واستطراداً استحالة ضمان الاستقرار في لبنان. بل إن الإدارة أبلغت حلفاءها أنها وروسيا متوافقتان على منع إيران من إنشاء خطّ «طهران- البحر المتوسّط» مروراً بالعراق، لكن قافلة من «الحرس الثوري» و«الحشد الشعبي» عبرت الأسبوع الماضي إلى مدينة البوكمال السورية متجهة إلى دير الزور. أي أن روسيا لم تحرص على تأمين الجانب السوري من الحدود وأن العراق لم يتمكّن من تأمين جانبه منها على رغم الضغوط الأميركية.
قد تكون الورقة السرّية في الإستراتيجية الأميركية اعتمادها على إسرائيل لضرب ميليشيات إيران لحملها على سحبها من سورية. وما يدعم ذلك أن واشنطن أحاطت موسكو ونظام الأسد وعواصم وجهاتٍ أخرى بأنها تدعم أي ضربات إسرائيلية. ومعلوم أن إسرائيل شنّت عشرات الغارات الجوية على الإيرانيين وأتباعهم بتفاهم وتنسيق مع روسيا، لكن هذه الأخيرة تعرف بخبرة وجودها على الأرض السورية أن الغارات لن تقلّص الوجود الإيراني بل تزيده رسوخاً، وأنها ستكون مستفيدةً إذا نجحت فعلاً في تقليصه. أما إيران فتدرك أن إضعاف دورها في سورية ينعكس بالضرورة على دورها في العراق، كما أنه يُضعف «حزب الله» حتى لو لم تكن إسرائيل عازمة الآن على ضربه في شكل مباشر في لبنان.
لعل هذا ما دفع إيران إلى إيفاد قيس الخزعلي، زعيم ميليشيا «عصائب الحق» العراقية، إلى جنوب لبنان ليعلن عند الشريط الحدودي مع إسرائيل «الجاهزية الكاملة» للقتال. كان ذلك قبيل أيام من إعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبعد هذا الإعلان كان الخزعلي نفسه مَن قال إن ترامب وفّر «مبرّراً شرعياً» لاستهداف الأميركيين في كل مكان. أي أن إيران استخدمته لإبلاغ تحذيرها بأن استهدافها في سورية يفتح كل الجبهات مع الإسرائيلين، وكذلك الأميركيين في العراق. قد تكون هذه الرسالة غيّرت الحسابات، فخلافاً للعادة لم يصدر أي تعليق إسرائيلي أو أميركي على تسلل الخزعلي إلى لبنان وتصريحاته الحربية، ما أثار استغراباً لم يساهم تكتّم «حزب الله» وإيران في تبديده.