المسألة، وبحسب الأجواء العاصفة التي تحيط بها، ليست مسألة تقنية عابرة، بل هي أزمة مفتوحة على التصعيد حتى حدود السقف الأعلى المفتوح، الذي يصعب من الآن تحديد المدى الذي سيبلغه وحجم النتائج والتداعيات التي ستترَتّب عليه.
وهذا ما يؤشّر اليه رفض الرئيس نبيه بري لهذا المرسوم والطريقة التي اتُّبعَت في توقيعه من قبل رئيسي الجمهورية والحكومة، وتجاوز توقيع وزير المالية عليه.
وتؤشّر اليه ايضاً السرعة الفائقة التي اندلعت فيها المعركة السياسية على ساحة المرسوم، وهددت بتفجير - هذا إذا لم تتفجّر - مرحلة الوئام السياسي الناتج عن كيفية معالجة أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري والشراكة في «الانتصار» في معركة خروجه من السعودية وعودته الى لبنان.
حتى الآن، واذا كان هذا المرسوم قد ألقي حالياً، وإلى أجل غير مسمّى، على رَفّ التريّث وتجميد نشره، فإنّ هذا الترّيث او التجميد هو إجراء مؤقت وليس دائماً ونهائياً، ولا ينزع صاعق هذه القنبلة الموقوتة المعدة للتفجير، على حدّ توصيف المعترضين على المرسوم، بل يبقي فتيلها مشتعلاً.
إلّا اذا نجح «سُعاة الخير» الذين تزايدت حركتهم في الساعات الماضية في إطفاء هذا الفتيل، والّا اذا كان الموقف الصادر أمس عن الحريري وتأكيده على «انّ الشراكة بين الجميع هي التي تقوم بالبلد وبالاتفاق في ما بيننا أنجَزنا الكثير»، مُقدّمة لنزع الصاعق. علماً انّ الحريري هو الشريك الثاني لرئيس الجمهورية في توقيع المرسوم.
على انّ الواضح من أجواء معركة المرسوم، هو عدم بروز أي مؤشرات علنية توحي بإمكان احتواء هذه المعركة قبل تفاقمها اكثر، وكذلك اتفاق المتابعين لهذه الأزمة على أنه بعد توقيعي رئيسي الجمهورية والحكومة المرسوم باتَ من الصعب نَزع الصاعق ان تُعالج ندوبها وتداعياتها وتأمين المخرج اللائق لها، الذي يحفظ كرامة الجميع، ويحافظ على ماء الوجوه، ويتقيّد بحدود التوازن وصلاحيات كل فئة من الفئات اللبنانية.
وبصَرف النظر عن الاسباب والدوافع التي حملت رئيس الجمهورية على توقيع مرسوم الاقدميات لضبّاط ما سمّيت «دورة عون»، بلا وزير المالية، وتأكيده في التوضيحات التي صدرت عنه وتلقّتها عين التينة، عدم وجود اي خلفيات تجاوزية لأي جهة، وانّ توقيعه استند الى سابقة من هذا النوع.
وبصَرف النظر عمّا يقوله المقرّبون من عون انه لم يوقّع مرسوم الأقدميات بقَصد فتح الاشتباك مع بري، الّا انه في المقابل، يبدو توقيع رئيس الجمهورية هذا المرسوم في نظر البعض، انه انطلق من سوء تقدير من قبله لردّ فِعل رئيس المجلس على إجراء له بُعدٌ ميثاقي وعُرفي. وانطلق ايضاً من عدم المبادرة المُسبقة الى تقدير تداعيات الإقدام على خطوة من هذا النوع.
خصوصاً انّ مجرّد وقوع الاشتباك في هذا الوقت لن يأتي بمردود إيجابي على رئيس الجمهورية، ذلك انّ هذا الاشتباك يعيد الامور في الداخل الى نقطة التوتر السياسي ويهدم كل الايجابيات التي أحاطت بالرئاسة الاولى خلال أزمة استقالة الحريري.
وهذا يعني انّ «كرة التراجع» في ملعب رئيس الجمهورية، والتراجع هنا فضيلة. علماً ان ليس ما يؤشّر حتى الآن الى انّ رئيس الجمهورية بصَدد التراجع عن المرسوم.
والحال نفسه بالنسبة الى الحريري، فقد نقل عنه انّ توقيعه جاء بناء على ضغوط وإلحاح من قبل رئيس الجمهورية. الّا انّ ذلك، في نظر البعض، لا يبرّر توقيعه خصوصاً انه كان قبل نحو ثلاثة اشهر رافضاً توقيع المرسوم لأنه يخرّب الجيش، كما نقل عنه آنذاك.
واذا كان بري قد فوجىء بتوقيع عون، فإنّ مفاجأته كانت اكبر بتوقيع الحريري وحتى الآن لم يجد ما يبرر لجوءه الى هذه الخطوة. خصوصاً انّ رئيس المجلس لم يكن ينتظرها، إذ هو صاحب المقولة الشهيرة «مع الحريري ظالما او مظلوما»، وكان له دور هو الأبرز في معركة إخراج رئيس الحكومة من السعودية.
وفي رأي هذا البعض انّ رئيس الحكومة لم يرتكب خطأ تقنياً، او خطأ سياسياً على شاكِلة الوعد التمديد ثم العودة عن هذا الوعد، بل ارتكب فاولاً سياسيا كبيراً مع رئيس المجلس، بل خطأ عرفي وميثاقي فادح مرتبط بالصلاحيات.
كان يمكن لفريق المستشارين، وبعضهم من المخضرمين، ان يقدر قبل توقيع الحريري حجم رَد فِعل بري عليه، وأن يقرأ في كتاب رئيس المجلس القائل إنه لا يمكن لأيّ مرسوم ينطوي على تَبِعات وأعباء مالية ان يمرّ من دون توقيع وزير المال، أيّاً يَكن هذا الوزير.
ومن يقول انه حريص على انتظام عمل المؤسسات لا يحق له بهذه الطريقة ان يهرّب مرسوماً بهذا الحجم، وبهذا الخلل، الذي اشار اليه ايضاً النائب وليد جنبلاط واستغربَ كيف يتمّ استحضار إرث مرحلة الحرب الى لحظة الوفاق الحالية.
فضلاً عن انّ هناك من يقول انّ ضبّاطاً من طوائف مختلفة في المؤسسة العسكرية باتوا يؤشّرون صراحة الى الخلل الذي قد يتسبّب به مرسوم الأقدميات في داخل الجيش.
وفي رأي اصحاب هذا الكلام، إنّ كرة التراجع، كما هي في ملعب عون، هي ايضا في ملعب الحريري، إذ انّ رئيس الحكومة يبدو انه في مرحلة ما بعد انتهاء ازمة الاستقالة، هو المَعنيّ اكثر من غيره بوجود علاقات انسجام ووئام بينه وبين سائر القوى السياسية، وكذلك هو معنيّ بعدم توتر العلاقة بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي، لأنه هو المستفيد من انسجامهما.
وطالما اننا في زمن النأي بالنفس، فإنّ دقّة المرسوم كانت توجِب على رئيس الحكومة ان ينأى بنفسه ويقول إنه لا يستطيع ان يكون مع موضوع شديد الحساسية، محكوم بصلاحيات معينة ومحددة، وقد تشوبه قراءات مختلفة وتوجّهات مختلفة وتفسيرات مختلفة، وتترتّب عليه مشكلات وأزمات سياسية توَتّر البلد وتضع حكومته في مهب الاحتمالات السلبية.