كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مهووسا بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران وبأن يخلّده التاريخ باعتباره الرئيس الأميركي الذي حوّل إيران من دول مارقة إلى دول “حليفة”، فأدار ظهره للحلفاء التقليديين للولايات المتحدة وتجاهل كل الحقائق والأدلة التي تبين بوضوح أدوار إيران في الفوضى في الشرق الأوسط وتورطها في هجمات إرهابية طالت حتى الولايات المتحدة.
لكن، الأسوأ أن أوباما لم يغض الطرف عن أنشطة إيران وجماعاتها العسكرية والطائفية فحسب، بل إن تحقيقا استقصائيا مطولا نشرته مجلة “بوليتكو” الأميركية يكشف أن الرئيس الأميركي السابق تعمّد أيضا التغاضي عن أنشطة إيران وحزب الله في تجارة المخدرات، وهي أحد الأعمدة الرئيسية في تمويل حزب الله، المصنّف على قائمة التنظيمات الإرهابية الأميركية.
ويأتي تحقيق بوليتكو بعد ما تم الكشف عنه خلال جلسات عقدها مجلس النواب للتحقيق في فضيحة غض طرف متعمد للإدارة الأميركية السابقة عن أنشطة الجماعات الإرهابية التابعة لإيران. وأفرجت هذه الجلسات عن الكثير من خفايا توقيع الاتفاق النووي والضغوط والتدابير التي اعتمدتها إدارة الرئيس لشلّ أي عمليات تحقيق كانت تجرى بشأن الشبكات المالية التي تدار من قبل إيران وحزب الله.
وتوصل التحقيق، الذي أجرته المجلة، أن إدارة أوباما أعطت رخصة مجانية لحزب الله لممارسة عمليات تهريب المخدرات وغسيل الأموال لضمان أن تبقى الاتفاقية النووية الإيرانية على المسار الصحيح. وعن كيفية القيام بذلك، تكشف المجلة أن الإدارة الأميركية السابقة عمدت إلى عرقلة أنشطة إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، المعروفة باسم مشروع كاساندرا والتي استهدفت الأنشطة الإجرامية التي تقوم بها الميليشيا اللبنانية المسلحة.
وكان مشروع كاساندرا جمع سنة 2008 أدلة عن أن حزب الله حول نفسه من منظمة عسكرية وسياسية مركزة في الشرق الأوسط إلى مافيا ناشطة في مجال الجريمة الدولية، إذا يعتقد بعض المحققين أنه يجمع مليار دولار سنويا من تجارة المخدرات والاتجار بالأسلحة وغسيل الأموال، وغير ذلك من الأنشطة الإجرامية. وتتبّعت الشبكة الأميركية الاستخباراتية شحنات الكوكايين التي يتاجر بها حزب الله ومنها ما خرج من أميركا اللاتينية إلى غرب أفريقيا وإلى أوروبا والشرق الأوسط، والبعض الآخر عن طريق فنزويلا والمكسيك إلى الولايات المتحدة.
كلما اقترب أوباما من وضع الصيغة النهائية للاتفاق النووي كان من الصعب استكمال التحقيقات حول أنشطة حزب الله غير المشروعة
وتعقب العملاء السرّيون “نهر النقد القذر” من الأموال التي يتم تبييضها من خلال “تكتيكات أخرى” كشراء السيارات الأميركية المستعملة وشحنها إلى أفريقيا. ودعمت المجلة التحقيق بنسخة من وثيقة تثبت أن حزب الله يرتبط بمخطط لغسيل الأموال قدره 568 142 483 دولارا.
وقالت بوليتيكو إنه ومع وصول مشروع كاساندرا إلى أعلى التسلسل الهرمي للمؤامرة، ألقى مسؤولو إدارة أوباما سلسلة كبيرة من العقبات. وكشفت أنه عندما سعى قادة مشروع كاساندرا ممن عملوا في ذلك الوقت بإدارة مكافحة المخدرات الأميركية بولاية فرجينيا، للحصول على موافقة لإجراء بعض التحقيقات الهامة والملاحقات القضائية والاعتقالات والعقوبات المالية، قام مسؤولو وزارة الخزانة الأميركية بتأخير طلباتهم وعرقلة تقدمها.
وأضاف التحقيق أن مسؤولي إدارة أوباما قاموا، من خلال عرقلة المشروع، بالمساعدة في السماح لأن يتحول كيان حزب الله إلى تهديد أمني عالمي كبير يمول العمليات الإرهابية والعسكرية. وقال ديفيد آشر، الذي ساعد في إنشاء مشروع كاساندرا وشغل منصب مستشار للجنرال جون آلان في وزارتي الدفاع والخارجية، “كان هذا قرارا سياسيا ممنهجا، قاموا من خلاله بإحباط كل الجهد المدعوم بالعديد من الموارد والمخطط له كما يجب”.
منع اعتقال الشبح
بسبب عرقلة إدارة أوباما، توقف مشروع كاساندرا الذي كان يهدف إلى ملاحقة قادة حزب الله بمن في ذلك أحد أكبر تجار الكوكايين في العالم ممن كانوا يصدرون أيضا الأسلحة النارية والكيميائية التي يستخدمها رئيس النظام السوري بشار الأسد والذي كان يطلق عليه اسم “الشبح”. ويضيف التحقيق أنه عندما سعى وكلاء مشروع كاساندرا وغيرهم من المحققين للتحقيق وملاحقة عبدالله صفي الدين، مسؤول حزب الله في مكتب طهران، والذي يعتبر العمود الفقري للشبكة الإجرامية لحزب الله، رفضت وزارة العدل، وفقا لما ذكره أربعة من المسؤولين السابقين، فتح تلك الملفات.
وبلغت تلك السياسات إلى الحد الذي رفضت فيه إدارة أوباما ممارسة ضغط لاستلام تاجر أسلحة حزب الله الذي نقل كمّيات كبيرة من الأسلحة إلى سوريا.
وتُبيّن بوليتكو أنه عندما اعتقل فياض في براغ في عام 2014 واحتجز لمدة عامين هناك، رفض المسؤولون في إدارة أوباما ممارسة ضغط جدي على الحكومة التشيكية لتسليمه إلى الولايات المتحدة.
وفي النهاية تم تسفير فياض إلى لبنان. وقال مسؤولون أميركيون إن فياض عاد إلى أعماله ويساعد على تسليح الميليشيات المسلحة في سوريا وغيرها من الجماعات المتشددة بالأسلحة الثقيلة، بينما وجهت له المحاكم الأميركية اتهامات بالتخطيط لقتل موظفي الحكومة الأميركية وتوفير الدعم المادي لحزب الله ومحاولة الحصول على الصواريخ المضادة للطائرات ونقلها واستخدامها لصالحه.
وقال آشر، في شهادة أدلى بها أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب إن “التحقيقات كانت تشمل الشبكات الإيرانية الممولة للإرهاب المتصلة بحزب الله وبتواطؤ مع شبكات فنزويلية”، لكنه فاجأ مستمعيه بالكشف “أن الوحدات التابعة للأجهزة الأمنية الأميركية والتي كانت عاكفة على التحقيق في هذه الملفات قد تم تفكيكها وحلها خدمة لأجندة الإدارة الأميركية بشأن إيران”.
صورة بالأقمار الصناعية نقلتها مجلة بوليتيكو تظهر مرفأ مليئا بالسيارات المستعملة على مقربة من ميناء كوتونو في بنين، حيث ينشط حزب الله في هذه التجارة ويقوم بدمج عائداتها مع أرباح تهريب المخدرات ضمن عمليات غسيل الأموال.
ويعتبر آشر، الذي يشغل حاليا منصب عضو في مجلس إدارة مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، أن واشنطن كانت قلقة من أن تؤدي هذه التحقيقات إلى تقويض المفاوضات مع إيران، وهو أمر قد يمكن فهمه ضمن سياق تلك المفاوضات وظروفها، لكن الأمر أدى إلى “أن تخسر الولايات المتحدة كنزا من المعلومات وأن تفقد البلاد كفاءات عالية في قطاع الأمن والاستخبارات كانت تملك خبرات عالية في هذا المضمار تمت إحالتها إلى التقاعد”.
وقال كيفن لويس، الذي عمل في البيت الأبيض ووزارة العدل في فترة أوباما، “كان هناك نمط ثابت من الإجراءات التي اتخذت ضد حزب الله، سواء من خلال فرض العقوبات الصارمة وإجراءات إنفاذ القانون قبل وبعد اتفاقية إيران النووية”.
وأضاف “كلما اقتربت الولايات المتحدة من وضع الصيغة النهائية لاتفاقية إيران النووية، أصبح من الصعب استكمال إجراءات تحقيقات ممارسات حزب الله غير المشروعة”.
سياسات خاطئة
يؤيد آشر ما ذهب إليه كيفن لويس بتأكيده “كلما كنا نقترب من عقد الاتفاقية الإيرانية، كان من الصعب البدء في التحقيقات. تم استنفاد الكثير من الإجراءات، سواء كانت عمليات خاصة أو إنفاذ القانون، وحتى الموظفين المعنيين بالمهمة تم استنفاد جهودهم هباء ودون جدوى من قبل إدارة أوباما”. وبعد أن أعلن الرئيس أوباما الاتفاقية في يناير 2016، تم نقل مسؤولي مشروع كاساندرا إلى مهام أخرى.
تبقى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أسوأ إخفاقات إدارة أوباما، وبسببها أشرفت الولايات المتحدة على تفكك منطقة الشرق الأوسط وصعود تنظيم الدولة الإسلامية، الذي طالت هجماته العمق الأميركية.
وفشل أوباما في مواجهة برنامج إيران النووي وصد دعمها للجماعات الإرهابية. واليوم، تختبر إيران صواريخ باليستية بعيدة المدى وتعرض أمن الولايات المتحدة وشركائها إلى الخطر، فيما يواصل حزب الله نشاطاته غير المشروعة.
وتقول بوليتكو إنه نتيجة لتلك السياسات الخاطئة، فقدت الحكومة الأميركية إمكانية مواجهة ليس فقط الاتجار بالمخدرات وغيرها من الأنشطة الإجرامية في جميع أنحاء العالم، ولكن أيضا مؤامرات حزب الله غير المشروعة بمساندة كبار المسؤولين في الحكومات الإيرانية والسورية والفنزويلية والروسية، وصولا إلى الرؤساء نيكولاس مادورو وبشار الأسد وفلاديمير بوتين، وذلك وفقا لأعضاء فريق العمل السابقين في كاساندرا وغيرهم من المسؤولين الأميركيين الحاليين والسابقين.
وفي الوقت نفسه، يواصل حزب الله بإشراف إيران، تقويض المصالح الأميركية في العراق وسوريا وفي مناطق واسعة من أميركا اللاتينية وأفريقيا، بما في ذلك توفير الأسلحة والتدريب للميليشيات الشيعية المعادية للولايات المتحدة. ويواصل صفي الدين و”الشبح” وغيرهما الاتجار بالمخدرات والأسلحة، بحسب ما يؤكد المسؤولون الأميركيون الحاليون والسابقون.