في بيئة الممانعة ضجّة عالية الصوت: «العدوّ» الأميركيّ يتقهقر. «حلفاؤنا» الروس والصينيّون يتقدّمون ويملأون الفراغ الذي يخلّفه انكفاء أميركا. إذاً نحن قاب قوسين من الانتصار.
الصحيح في هذا الكلام ليس جديداً. الجديد في هذا الكلام ليس صحيحاً.
نعم، أميركا تنكفئ. إنّها تفعل ذلك منذ باراك أوباما، خصوصاً منذ بدأت تظهر العلامات الأولى على هزائم الثورات العربيّة. الانكفاء غذّى الهزائم والهزائم غذّت الانكفاء. جاء ترامب يعزّز هذه الوجهة بالغباء والشعبويّة والاعتباط وتحكيم أسوأ ما في أميركا بأميركا وبالعالم.
ما ليس صحيحاً أنّ الروس والصينيّين «حلفاؤنا». إنّهم يناكفون أميركا في منطقتنا ومناطق أخرى من العالم كي يصالحوها من موقع أقوى. علاقات البلدين بالخارج، وفي عداده إسرائيل، لا أثر فيها للأيديولوجيا وانحيازاتها. الكلمات المفتاحيّة في قاموسهما ليست «الحقّ» و «الصواب» أو «العدوان» أو «الشرّ» أو «الغلط». إنّها «الربح» و «الخسارة» فحسب.
الخطأ الآخر، وهو أكبر من سابقه، أنّ ما من قوّة في العالم تغدو عالميّة بسبب سلاحها الجويّ، كما حال روسيا في سوريّة، ولا حتّى بسبب اقتصادها القويّ، وهي حال الصين اليوم.
من يغدو عالميّاً لا بدّ أن يملك، إلى جانب الاقتصاد والسلاح، سلاحاً لا تمتلكه الصين وروسيا راهناً. إنّه النموذج الجذّاب والمغري. فبالنموذج، وعلى يد نابوليون بونابرت، صارت فرنسا أوروبيّة، أي عالميّة بمعايير ذاك الزمن. لقد حاربت وغزت باسم الحرّيّة والقوميّة، ثمّ حوربت وهُزمت على أيدي الذين تعلّموا منها الحرّيّة والقوميّة. وبالنموذج صارت الولايات المتّحدة عالميّة، حاملة إلى العالم قيم الديموقراطيّة والفرديّة وما يسايرهما من مظهر وسلوك. واليوم قد تُهزَم الولايات المتّحدة في هذه الساحة أو تلك من دون أن يُهزم ذاك النموذج. وفي حالات كثيرة يُستخدَم النموذج إيّاه لمحاربة أصحابه الأميركيّين.
لقد صار الغرب الأوروبيّ– الأميركيّ ما صاره لأنّه امتلك النموذج إلى جانب الاقتصاد والسلاح. لإدراك ذلك يكفي إجراء مقارنة معبّرة بين هشاشة القيم التي خلّفتها عشرات السنين السوفياتيّة في العالم وصلابة ما أنشأه الاحتكاك بالغرب على صعيد المؤسّسات والقيم. وكم يبدو الأمر فاقعاً، على مستويات العلم والعمل والتشبّه، حين يكون بلد كهولندا أو بلجيكا أو النروج أشدّ تأثيراً من روسيا والصين مجتمعتين. هذا ما لا تستطيع أن تعوّضه مهارة سياسيّة لفلاديمير بوتين من هنا، أو لتشي جينبينغ من هناك، وهما مهارتان مؤكّدتان لا يرقى إليهما الشكّ.
ذاك أنّ الصين وروسيا لا تملكان ما تقدّمانه للعالم على هذه الصعد: الديموقراطيّة والحرّيّة والإعلام وأحوال الشبيبة وتدفّق الصور وتقنيّات العولمة، وطبعاً الطبّ والعلوم. اليوم، لا يُطلب العلم في الصين ولا في روسيا. إنّهما لا تغريان أحداً بتقليدهما، اللهمّ باستثناء الحكّام غير الديموقراطيّين ومن يلفّ لفّهم.
وحدها النظرة السياسويّة التي ترى أنّ السياسة قوّة فحسب، ولا ترى فيها مكاناً للنموذج، هي التي تشتقّ من تراجع أميركا تقدّماً لروسيا والصين، ثمّ تشتقّ من هذا التقدّم «انتصاراً لنا». وحتّى إشعار آخر، يبقى تراجع أميركا والغرب كارثة على العالم كلّه، ونحن في عداده، خصوصاً بيننا الفلسطينيّون الذين تظلمهم أميركا المتراجعة أكثر كثيراً ممّا تظلمهم أميركا المتقدّمة.
أمّا الممانعون فسيراكمون، بقوّة «حلفائهم»، انتصارات تلو انتصارات، إلى أن يأتي اليوم الذي يكتشفون فيه أنّهم، هم و «حلفاؤهم»، يقبضون على هواء كثير.