واضحٌ أنّ الحريري يعتمد في مقاربته لعنوان «النأي بالنفس» طريقة «الإنذار المبكر»، برغم أنّ مرصده لم يسجّل حتى الآن أيّ خرقٍ من شأنه أن يعكّر فترة التعايش الطوعي الذي قررته كلّ مكوّنات الحكومة، أو يقطع شعرات الوصل بينه وبين أيّ منها، والتي – أي الشعرات – كادت تُقطَع جرّاء زيارة أمين عام حركة «عصائب أهل الحق» العراقية قيس الخزعلي إلى الحدود الجنوبية قبل أيام.
عندما توافقت القوى السياسية على «النأي بالنفس» كمخرج لإعادة إنعاش حكومة الحريري، ارتكز ذلك على عنوان واضح ومفعول مزدوج لهذا «النأي»: «عدم تدخّل لبنان بشؤون غيرِه من الدول العربية، وعدم تدخّل غيره من الدول بشؤونه». وهو ما يؤكد عليه الحريري وكلّ مكوّنات الحكومة.
زيارة الخزعلي الى الحدود اعتُبِرت مسًّا بهذا المبدأ، والحريري نفسُه سجّل اعتراضاً عليها من حيث زمانها ومكانها وعلى كلّ ما أحاط بها من ألغاز والتباسات. وتمّ طيُّ صفتحها بعد توضيحات يقال انّ رئيس الحكومة تلقّاها بصورة مباشرة أو غير مباشرة من جهات سياسية وحزبية فاعلة.
لكنّ الساعات الماضية عكست بشكل واضح أنّ لبنان بقدر ما هو تحت المجهر الحريري رصداً للالتزام بعنوان النأي بالنفس، هو أيضاً تحت المجهر السعودي، وهو ما أبلغَه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير صراحةً لقناة «فرانس 24» بقوله إنّ السعودية تراقب ما سمّاه الجبير «إلتزام لبنان بالحياد في شأن ما يَحدث في العالم العربي»، وكذلك «الالتزام بإعطاء الحريري الهامشَ السياسي للعمل»، وذلك إنفاذاً لوعدٍ قال وزير الخارجية السعودي إنّ الحريري تلقّاه من رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
كلام الجبيرـ إثيرَت حوله تساؤلات سياسية لناحية مضمونه وتوقيته، وحول من ابلغ المملكة بتلقّي الحريري وعداً من بري بأنّ لبنان سيكون حيادياً، هل الحريري؟ إنْ صحَّ ذلك، فمعناه أنّ التواصل عاد بصورة مباشرة بينه وبين السعودية. هل عبر وسيط للحريري؟ فإنْ صحَّ ذلك ايضاً فمعناه أنّ التواصل عاد بصورة غير مباشرة بينه وبين المملكة.
وهل عبر «طرف ثالث» بعثَ بتقرير مبنيّ على كلام جرايد؟ فإنْ صحَّ ذلك، فمعناه أنّ زمن التقارير لم ينتهِ بعد؟ وأمّا بالنسبة الى الوعد، فإنّ ناقلَ الكلام إمّا تصرّفَ به وإمّا حرّفه وفسّرَه على نحو ما يحبّ أن يسمع المتلقي، إذ ثمّة فارق كبير جداً بين «الحياد» وبين «النأي بالنفس»، والرئيس بري المنسوب إليه الوعد يؤكّد أنّه لم يأتِ على ذِكر «الحياد» من قريب أو بعيد» أنا تعهّدتُ بـ«النأيَ بالنفس» لا أكثر ولا أقلّ ونفّذت والتزمت».
على أنّ الجانب الآخر ممّا قاله الجبير لناحية اتّهامه رئيس الجمهورية ميشال عون و»حزب الله» «بعدم السماح للحريري بالحكم، وبأنّهما استخدماه كواجهة لتغيير القانون الانتخابي، وبأنّ السعودية ستنتظر وترى كيف سيعطى (الحريري) الهامش السياسي للعمل».
جاء صادماً ومزعجاً للمستويات الرئاسية التي آثرَت تجاهلَ الامرِ وعدم مقاربة كلام وزير الخارجية السعودي بأيّ ردود فِعل مباشرة. لكنّها مع ذلك، سجّلت سلسلة ملاحظات يلخّصها مرجع كبير بالآتي:
• أوّلاً، أنّ لبنان دولة ذات سيادة، ويرفض ان يوضع رئيسُه في موقع الاستهداف والاتّهام من أيّ كان.
• ثانياً، لبنان دولة تحترم نفسَها، كما يرفض الآخرون ان يتدخّل احد في شؤون دولهم الداخلية، يرفض لبنان ان يتدخّل احد في شؤونه، وبالتالي كلام الجبير هو تدخّلٍ في الشأن اللبناني، ولم يحصل له مثيل من قبل.
فماذا يقصد عندما يقول «إنّنا سنراقب تنفيذ الحياد»، وعندما يتناول أموراً داخلية لبنانية؟ فلنعكِس الصورة ونتصوّر أنّ هذا الكلام صَدر عن إيران أو من أيّ دولة أخرى حليفة لايران، فما الذي كان سيحصل، ألم يكونوا ليقيموا القيامة عليها هم ومَن معهم؟
• ثالثاً، القانون الانتخابي شأنٌ لبناني داخلي ولا علاقة لأيّ طرف خارجي به، مهما كانت صلة القرابة السياسية كبيرة وقوية مع لبنان، أو مع بعض الاطراف السياسية فيه.
وهنا للرئيس بري موقف نهائي: «سواء أعجَب القانون الانتخابي البعضَ أو لم يعجبهم فهذا شأنهم ولا علاقة لنا بما يعجبهم او لا يعجبهم، القانون الانتخابي قانون نافِذ وثابت ولا يستطيع احد ان يعطّله، وستجري الانتخابات النيابية على اساسه ، في موعدها المحدّد في ايار المقبل، وبالتالي يخطئ من يعتقد او يراهن على انّ في الإمكان تغييره، فمجلس النواب ليس في هذا الوارد، وبالتالي لا تعديل للقانون الانتخابي ولا تغيير. هناك كلام كثير يقال هنا وهناك، ولكن هذا ليس اكثر من كلام، وللعلم ثمّة محاولات عديدة جرَت في السابق لتعديل القانون ولم تنجح».
كان برّي حاسماً في ردّه حينما سُئل: هل يستطيعون ان يعطلوا الانتخابات؟ حيث قال: «أعوذ بالله، لا تعطيل ولا تغيير ولا تعديل». وكذلك حينما قيل له «هناك من عاد الى القول بأنّ قانون الستين ضمانة للسُنّة، أجاب: «ستّين سنة وسبعين يوم، يِحكوا اللي بدهم ياه، فما كتِب قد كتِب وانتهى الأمر».
ماذا عن التحالفات؟
يقول معنيّون بالقانون الانتخابي، بأنه قانون تحالفات، وهذه التحالفات يمكن أن تُعبّر عن نفسها وفق ظروف الدوائر الانتخابية، وبالتالي هناك كلام عن تحالفات رباعية أو خماسية، لا نقول إنّها ممكنة ولا نقول إنّها غير ممكنة، فكلّ طرفٍ عليه ان يثبت قوّته وفعاليته في هذه الانتخابات وقدرته على نسجِ التحالفات.
هذا عِلماً أنّ التحالف الخماسي إن ركّب من تيار المستقبل والتيار الوطني الحر وحركة أمل و«حزب الله» والحزب التقدمي الاشتراكي فسيَجتاح الانتخابات على غرار التحالف الرباعي في العام 2005.
يؤكّد على ذلك مرجع كبير، لكنّه يستدرك: ثمّة ما يدفع الى الاعتقاد بأنّ هذا التحالف لن يحصل بسبب انّ تحالف الحريري مع «حزب الله» صعب جداً، وربّما مستحيل، خصوصاً أنّ للحريري اعتباراته ، كما أنّه ما زال يَحظى بالرعاية، فلا هو يستطيع ان يتخلّى عن السعودية، ولا السعودية تستطيع ان تتخلّى عنه، إذ إنها لا ترى له بديلا حتى الآن، فضلاً عن انّ تخَلّيها عنه سيُظهرها في موقع المهزوم والفاقدة للحضور والدور في لبنان.
تبعاً لهذا الكلام، البلد على وشكِ الدخول فعلياً في زمن الاستحقاق النيابي والتحضير للانتخابات التي تفصل عن موعد إجرائها أقلُّ مِن خمسة اشهُر، ولولا الضرورات لكان البلد قد استغرَق فيها من الآن.
يقول بري: «لا يجوز أن تتوقف عجَلة البلد والحكومة والمجلس، هناك عمل كثير، لا يوجد شيء إلّا ويحتاج إلى شُغل، ونستطيع أن نكمل من الآن بإقرار القوانين المتعلقة بقطاع النفط، ونستطيع ايضاً أن ننجز الموازنة لأنها منجَزة مِن قبَل وزير المال وتنتظر إقرارَها في مجلس الوزراء.