النظام السوري لا يريد مفاوضات جنيف. ولا ينبع رفضه من التعويل على سوتشي. فهو لا يريد أيضاً المؤتمر الوطني الجامع في هذا المنتجع الروسي. يعتقد بأن ما حققه على الأرض يدعم موقفه الساعي إلى استعادة سيادته على كل الأرض. وهذا موقف حليفه الإيراني الذي توعد بالزحف إلى إدلب بعد «تطهير» شرق البلاد. هذا ما أعلنه صراحة علي أكبر ولايتي مستشار المرشد للشؤون الدولية، في زيارته حلب الشهر الماضي. وهو موقف ينسجم مع اعتراض طهران على تصنيف موسكو لفصائل المعارضة بين معتدلة ومتطرفة. ويشاهد السوريون أن القوات الإيرانية والميليشيات الحليفة لا تزال تتوافد إلى بلادهم، كأن الحرب لم تنته، أو هي على وشك دخول جولة واسعة من العنف. وتستعد لإرسال مقاتلين إلى إدلب حيث توقفت تركيا عن ضرب «جبهة النصرة» ربما في انتظار ضوء أخضر روسي يتيح لها دخول عبرين لإنهاء وجود «وحدات حماية الشعب» الكردية في هذه المنطقة. وهذه عقبة ثانية بوجه مساعي موسكو إلى إبرام صفقة سياسية تتمتع بغطاء دولي وتتيح لها تكريس «انتصارها» في بلاد الشام. انتصار لا يشاركها فيه أحد، عسكرياً على الأقل. غازلت كل الأطراف المنخرطين في الحرب. وأشركتهم في ترتيبات التهدئة وأتاحت لهم بناء شراكات اقتصادية أو تجارية لكنها لا يمكن أن تسمح بوجود استراتيجي لأي قوة أخرى أياً كانت. من هنا وصفها الوجود الأميركي بأنه احتلال ولا يحظى بشرعية من دمشق.
لا يمكن النظام المنتشي بما تحقق له من تقدم على الأرض، أن يقنع نفسه بوجوب تقديم تنازلات تتناول صلب صلاحياته وطبيعته وهويته ومؤسساته، والقبول بانتخابات برلمانية ورئاسية تشرف عليها الأمم المتحدة ويشارك فيها السوريون في أرض الشتات. لذلك لا معنى للذرائع التي يسوقها، أو الاتهامات التي يوجهها سواء إلى المعارضة أو المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، من أجل تبرير فشل الجولة الثامنة من المفاوضات. هل يرضى مثلاً بتقليص صلاحيات الرئيس وتوزيعها على الحكومة والمجالس المحلية في كل منطقة من مناطق البلاد؟ هل يرضى بتحول النظام برلمانياً يحرم الرئيس من امتلاك كل مقاليد السلطة؟ وهل يرضى بتحديد ولاية الرئيس باثنتين فقط كما هي الحال في معظم دساتير العالم، بما فيها الدستور الروسي؟ هذه عناوين مسودة الدستور التي قدمها الروس مطلع السنة، وستكون حتماً منطلقاً للبحث في سوتشي. قد لا تكون سورية مرشحة بعد فشل الجولة الأخيرة في جنيف للتقسيم الحتمي كما حذر المبعوث الدولي، أقله في المدى المنظور. تقسيمها يعني فتح الباب أمام سلسلة قد لا تتوقف عند حدود بلاد الشام. قد تشجع على التمدد نحو العراق وتركيا وحتى إيران وغيرها. ويستحيل أن يكون المجتمع الدولي، في ظل نظامه المهتز، مستعداً لاستقبال هذا الحجم من التحولات الكبرى وتداعياتها.
مشكلة روسيا ليست إذاً مع خصومها، وإن حملت وفد المعارضة فشل جنيف وحددت لها شروطاً خمسة أو ستة إرضاء للنظام وحماية له بعدما انتقده المبعوث الدولي. فالمعارضة لم ترفع شعار الحل العسكري. النظام هو الذي عسكر الحراك منذ البداية ولا يزال يصر على الحسم الميداني. مشكلتها مع شركائها في الأزمة، من دمشق إلى طهران وأنقرة. فلكل من هذه الأطراف أجندة مختلفة لا تلتقي مع ما يرسمه سيد الكرملين الذي تكفيه صعوبة التعامل مع المنافسين والخصوم المنخرطين في الميدان السوري. يربكه موقف الولايات المتحدة التي تبدي لا مبالاة أو تتعمد إظهار عدم اكتراث بما يجري سواء في جنيف أو في آستانة. وتكرر أن قواتها باقية في سورية إذا لم يكن الحل السياسي ملائماً أو مرضياً. ولا تبدي اهتماماً بإعادة الإعمار في البلد المدمر. ويمكنها في أي وقت أن تلعب ورقة الكرد، وإن أظهرت أخيراً رغبة في مراعاة تركيا المعترضة على تسليحهم. مثل هذه المواقف تعني أن واشنطن التي سلمت لموسكو بإدارة العملية السياسية، لا تمنحها شيكاً على بياض أو أنها ستوافق تلقائياً على قراءة الكرملين للتسوية، أو على طريقة توزيعه لـ «الحصص» على القوى المعنية بالصراع. ولا شك في أن إصرارها على البقاء العسكري شرق بلاد الشام وشمالها يعني أنها تمتلك حق «الفيتو» على «السلام الروسي». ويعكس إصرارها على ترسيخ حضور سياسي في هذا البلد لها أو لحلفائها في الإقليم يترجم، في التوقيت الملائم، دوراً في رسم مستقبل بلاد الشام. أو لعل أميركا راغبة في ترك روسيا تتخبط في هذا المستنقع. أو أنها راغبة فعلاً في ترجمة استراتيجيتها بخوض المواجهة مع إيران. وقد بدأت ملامح هذه المواجهة في صور عدة. بينها موقف فرنسا (وبعض أوروبا) الذي يسعى إلى الفصل بين الاتفاق النووي وسياسات طهران التوسعية في عدد من الدول العربية. وبينها أخيراً إعلان المندوبة الأميركية إلى الأمم المتحدة نيكي هايلي أن بلادها تريد بناء تحالف دولي للتصدي لسلوك الجمهورية الإسلامية في الخليج والعالم. وكررت اتهامها بدعم الإرهاب، وعدّت برنامجها الصاروخي انتهاكاً للاتفاق النووي. وقد ركزت على ما يجري في اليمن الذي قد يكون محكاً لجدية الدور الأميركي في ما يجري جنوب شبه الجزيرة العربية. فضلاً عن كون هذا نقطة ضعف لإيران التي بالغت في نشر قوات وميليشيات في معظم أنحاء المنطقة ستجد مع الوقت صعوبة بالغة في إدارة الصراع فيها أو ترسيخ أقدامها في كل هذه الأماكن في وقت واحد.
بات واضحاً أن الرئيس بوتين يستعجل سحب وحدات من سورية على أبواب حملته الانتخابية. ولكن ليس إلى الحد الذي يهدد وجود بلاده العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس، أو يهدد حضورها السياسي في بلاد الشام ومنها في الإقليم. صحيح أن هذا التقليص للقوات رسالة إلى الداخل «الانتخابي»، لكنه ربما كان رسالة أيضاً إلى حليفيه في دمشق أو طهران تشي باستعداده لوقف التدخل الميداني ليترك لهما وحيدين مواجهة أكثر من مئة ألف يشكلون فصائل في «الجيش الحر» فضلاً عن قوى أخرى متطرفة. هذا الواقع بالطبع ينذر بتجدد جولات جديدة من الحرب إذا لم تنجز التسوية... أو إذا أصرت إيران على وجود عسكري دائم في سورية. في حين يصر أكثر من طرف على خروجها من هذا البلد وفي المقدمة إسرائيل ودول أوروبية وعربية. أياً كان هدف موسكو من تخفيف الوحدات والترسانة، فإن التعويل على سوتشي كفرصة للخروج بتسوية يبدو في غير محله. فإذا تعذر تفاهم بضعة سوريين يمثلون النظام والمعارضة الموحدة في جنيف، فكيف سيتسنى لنحو ألف أو بضعة مئات أن يتفاهموا أو يتفقوا على حل سياسي في مؤتمر الحوار الوطني الموعود في سوتشي؟ وبعيداً من الأطراف المحلية، كيف يمكن موسكو أن تراهن على هذا المؤتمر وهي تدرك أن تعقيدات الأزمة أكبر بكثير من السوريين؟ ثمة قوى ومصالح دولية وإقليمية متناقضة ومتصارعة في بلاد الشام. وحتى لو نجح الروس في فرض صيغة حل في المؤتمر، فماذا عن موقف تركيا وإيران وخصومها العرب؟ وماذا عن الولايات المتحدة وإسرائيل؟
لذلك تدرك موسكو أن أي حل سيخرج من سوتشي، أياً كان الحضور ومستواه ومدى تمثيله، يحتاج إلى غطاء شرعي من المجتمع الدولي، مثلما يحتاج إلى قبول المعارضة الموحدة أو غالبية السوريين. من هنا تكرار الديبلوماسية الروسية أن سوتشي ليس بديلاً من جنيف بل هو مساعد ومكمل تماماً كما كانت الحال مع اجتماعات آستانة التي وفرت نوعاً من التهدئة في مناطق متفرقة. ولا يبدو أن بقية المنخرطين من أصحاب المصالح في سورية مستعدون للقبول بحل سياسي لا يرعى مصالحهم، خصوصاً إيران التي تبني قواعد عسكرية في حين لا تزال إسرائيل تهدد كل يوم بعدم السماح للجمهورية الإسلامية بوجود دائم في بلاد الشام. من السهل إشاعة قراءة متفائلة حيال المساعي السياسية، لكن واقع الأزمة لا يبشر بتسويات بقدر ما ينذر بأيام صعبة وربما بجولات دامية إذا تصاعدت المواجهة بين إيران وخصومها الكثر دولياً وإقليمياً.