ما قاله وزير الدفاع الأميركي جايمس ماتيس لجهة أن بلاده ستواجه إيران ديبلوماسياً لا عسكرياً، يفتح الباب أمام مزيد من التفكير بحال التقهقر الذي يشهده الموقع الأميركي في الشرق الأوسط، بل في العالم أيضاً. وللمرء أن يفكر بأنه أيضاً تقهقر إرادي، ذاك أن أميركا ومنذ النصف الثاني من ولاية باراك أوباما الثانية باشرت انكفاءها عن مختلف ملفات المنطقة، ومثّل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رغبة داخلية أميركية في هذا الانكفاء.
أن تقرر أميركا مواجهة نفوذ إيران الإقليمي "ديبلوماسياً"، وأن تُمهد لهذا القرار بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، فنحن في هذه الحال أمام احتمال من إثنين، إما الجهل المطبق بما يعنيه قرارها المتعلق بالقدس من تمتين وتحصين للموقع الإيراني، وإما مراوغة خصوم طهران العرب بالملف الإيراني لتمرير اعترافها بالقدس. وفي الحالين نحن بين يدي إدارة غير كفوءة وغير مدركة تبعات أفعالها.
لا مواجهة عسكرية مع طهران. ربما كان هذا هو الأمر المفيد الوحيد مما كشفه الوزير الأميركي، ذاك أنه يُبدّد أوهام من يبنون سياساتهم على احتمال هذه المواجهة. لكن، ماذا عن المواجهة الديبلوماسية؟ الإدارة الأميركية في أضعف موقع لها منذ عقود طويلة، سواء على المستوى الداخلي، حيث تلقت هزيمة انتخابية مرة هذا الأسبوع، وهي محاصرة ومهددة بقضايا التحرش، وعلى المستوى الخارجي حيث تقابل دعواتها مواجهة إيران بتحفظات أوروبية، لم تجد في ظلها واشنطن شريكاً غربياً واحداً، وأضيف إلى ذلك ما أثاره قرارها المتعلق بالقدس من ذهول دفع أقرب حلفائها العرب إلى التحرك لمواجهته.
والحال أن انعدام الكفاءة "الديبلوماسية" لهذه الإدارة لا يبشر بأن "نصراً" على طهران يلوح على هذا الصعيد. فواشنطن تُبدد الحلفاء تلو الحلفاء. الثابت الوحيد هو تل أبيب حتى الآن. في سورية قررت أن تكتفي بحضورها في مناطق الأكراد، فخسرت بذلك تركيا، وأفسحت المجال أمام تعاظم الدور الروسي. وفي العراق فعلت عكس ذلك، فهي وقفت إلى جانب طهران في مواجهة الأكراد، حلفائها التاريخيين، وها هي تصبح الشريك الأصغر في بلاد الرافدين. وفي لبنان لا يبدو أنها بصدد أكثر من فرض عقوبات اقتصادية تستهدف "حزب الله"، إنما أيضاً لا تميز بين الحزب وبين غيره من اللبنانيين.
والمرء إذ يحاول طرد حس المؤامرة، لا يمكنه تفادي حقيقة أن واشنطن تقدّم الخدمة تلو الأخرى لطهران، وهي، وفي موازاة رفع خطاب المواجهة معها، تمعن في الإقدام على خطوات لا يمكن تفسيرها في هذا السياق. فواشنطن أقدمت على عرض قرائن ملموسة على دور طهران في الحرب اليمنية، بما يوحي بأن ذلك مقدّمة لخطوات عملية للحد من هذا التدخل، لكنها في الوقت ذاته تخلي الموقع تلو الموقع مفسحة لطهران مزيداً من النفوذ.
خط أنابيب نفط بين طهران وبغداد، وآخر لنقل الغاز الروسي عبر الأراضي الإيرانية. والخطوط الديبلوماسية الإيرانية تخترق علاقات واشنطن مع أقرب حلفائها في المنطقة. ووفق هذه المؤشرات يبدو أن ما تحدث عنه ماتيس لجهة المواجهة الديبلوماسية، أمر غير ممهد له بغير أقوال الوزير والمؤتمر الصحافي للسفيرة في الأمم المتحدة. فواشنطن لم تقدم على خطوة واحدة خارج حدودها لبناء منصة مواجهة ديبلوماسية وغير ديبلوماسية مع طهران، في حين لا يؤشر الموقع الأميركي في معظم أزمات المنطقة إلى افتراق كبير في المصالح بين العاصمتين.
وبما أن "الجهد الديبلوماسي" مقتصر على خطوات في أروقة داخلية، يمكننا في هذه الحال الاستنتاج أن واشنطن غير جادة في قرارها مواجهة طهران، حتى في المستوى الديبلوماسي. الأمر لا يقتصر على عدم استجابة حلفائها الغربيين لرغبتها في انضمامهم إلى حملتها على طهران، إنما أيضاً يشمل عدم رغبتها الضمنية في خوض هذه المواجهة.