ليست القوات اللبنانية، منذ 4 تشرين الثاني 2017، في وضع تُحسد عليه. تتعرّض مذاك لأقصى محاولات التهشيم والحصار. لم يكن موقف القوات من استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري هو القشة التي قصمت ظهر البعير بين القوات وأركان العهد. القلوب كانت قد طفحت، فلم يعد أحد قادراً على غض الطرف عن "معارضة القوات المستمرّة" وتمايزها في ملفات حياتية أساسية. من الكهرباء إلى النفط إلى الاتصالات، وغيرها من البنود التي غالباً ما كانت تعارضها القوات حول طاولة مجلس الوزراء، واصفة إياها بأنها "صفقات مشبوهة، وغير مستوفية الشروط القانونية".
تعود أزمة القوات مع العهد إلى إعلان النوايا. قد يقول أحدهم إن مشكلة القوات مع نفسها وليس مع أحد غيرها، لأنها هي التي استدرجت نفسها إلى خندق دعم ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية، بموجب ورقة من عشرة بنود، ذهبت كلها أدراج الرياح. منذ اليوم الأول لانتخاب عون بدأ التوجس القواتي. كانت الخشية القواتية من الوصول إلى حالة الندم. وهذا ما حصل بعد سنة وأقل. يقولها أحد المسؤولين القواتيين إن الخطأ الكبير كان السير في التسوية. لكن، في معرض تبادل الاتهامات بين القوات وتيار المستقبل، في الأيام الماضية، ووصف المستقبل القوات بالغدر والطعن بالظهر، دفع القواتيين إلى قراءة الأحداث الماضية، والاسترسال في ما يصفه القواتيون بالمسار الطويل من الطعنات التي تعرّضوا لها من الحريري. ويفضلون عدم استرجاعها، لكنهم يتوقفون عند مفصل أساسي، ويقولون إن "الطعن بالظهر بدأ من عند الحريري، عندما سار بترشيح سليمان فرنجية للرئاسة من دون مشاورة حلفائه. وهذا ما دفعنا إلى التقارب مع عون. الحريري هو الذي يتحمّل مسؤولية ذلك".
وجد الطرفان أن استمرار الهجمات بينهما سيؤدي إلى مزيد من الخسائر، لكن القوات وجدت نفسها مضطّرة إلى الرد وعدم السكوت، ولولا هذه الردود لما كان الحريري أصدر تعميماً لمناصرين وكوادر تياره بوقف الحملة على القوات، ولكانت الحملة استمرّت. يعتبر القواتيون أن الردّ على التجنّي المستقبلي بحقهم، هو ما أجبر الحريري على وقف الحملة. وهو ما فعّل قنوات التواصل بين الوزرين ملحم رياشي وغطاس خوري، وصولاً إلى الخلوة على هامش جلسة الحكومة، والتي أوصل خلالها الحريري رسالة إيجابية إلى جعجع، وأبدى حرصه على العلاقة معه، وبأنه لم يكن المقصود هو الهجوم على القوات أو الإساءة إليها. هذا الموقف سيتابع باتصالات إضافية لتوفير ظروف عقد اللقاء بين الحريري وجعجع.
لا شك أن في علاقة القوات والمستقبل كثيراً من الترهّل وتحتاج إلى ورشة ترميم كبرى، لإعادة التفاهم على الخطوط العريضة، لاسيما بعد زوال ما يسمى 14 آذار، والبحث عن عناوين جديدة تكون قواسم مشتركة بين الطرفين. لكن، لا شك أيضاً أن ظروفاً عدة ستقف في وجه إعادة اللحمة بين الحليفين إلى سابق عهدها، منها التسوية التي يسعى إليها الحريري فيما يصعّد جعجع بوجهها، ومنها ما هو سياسي، إضافة إلى ما يتعلّق بملفات أخرى، من الكهرباء وصولاً إلى الإتصالات ومروراً بالنفط.
كثيرون كانوا يتوقعون اعتراض وزراء القوات على إقرار التلزيمات النفطية، لكن المفاجأة كانت بالثناء عليها. وتشير مصادر إلى أن القوات وجدت نفسها مضطّرة إلى ذلك لأجل تليين الموقف مع الحريري، وإعادة التواصل وفتح ثغرة في جدار الحصار الذي كانت تتعرض له. لذلك، وافقت على اقرار البند، لكنها تركت هامش الاعتراض على الآليات التطبيقية في المستقبل. وكما كانت السياسة هي ما دفع القوات إلى الموافقة على النفط، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأفرقاء الآخرين، أي التيار الوطني الحر وتيار المستقبل وحركة امل. فتوزيع التلزيمات على الشركات يظهر الأيدي السياسية. والشركات الثلاث التي لزّمت تحظى بتوافق بين المكونات السياسية الأساسية، وخصوصاً الشركة الروسية، التي يصر الحريري على إشراكها، بناء على الزيارة التي أجراها إلى موسكو قبل أشهر. فالحريري ينتظر مردوداً سياسيّاً وغير سياسي على صعيد علاقته بروسيا.
ثمة من يعتبر أن العلاقة بين القوات والمستقبل لن تعود إلى سابق عهدها، جرار كثيرة تكسّرت، والعوامل السياسية تضمحّل. أوصل الحريري رسالة أساسية، بأن الانتخابات المقبلة ستكون بين من يريد الأمن والاستقرار والاقتصاد وتحسّن الأوضاع المعيشية، وبين من يريد الصراخ والمواقف التصعيدية للحصول على مواقع سياسية. هي إشارة بازرة إلى أن التحالف النفطي والكهربائي سينسحبان على التحالفات الانتخابية. وهذا ما يتلاقى مع معطيات أخرى تفيد بأن هناك تحالفات موضعية وضرورية ستكون بين تياري المستقبل والوطني الحر وحركة أمل، وبالتالي حزب الله، في دوائر بيروت الأولى، الشوف- عاليه، صيدا- جزين، زحلة، وغيرها. ويبقى السؤال عن موقع القوات. فاستمرار الاعتراض القواتي في ملفي الاتصالات والكهرباء، وتجديد الإعتراض على الآليات التطبيقية للتنقيب عن النفط، سيبعد القوات انتخابيّاً عن المستقبل، وسيجعلها تبحث عن حلفاء آخرين في جبهة المعارضة. إلا إذا حصلت تطورات كبرى، أعادت الطرفين إلى حضن بعضهما البعض. باستثناء ذلك، فللقوات خيارات عدة، كالتحالف مع المستقلين والقوى المعترضة على التسوية.