يبدو أن استحضار أنفسنا جنسياً يمكن أن يكون موضوعاً مثيراً كي نتدفأ قليلاً مع هذا الصقيع الذي يلمّ بأجسامنا منذ أن فقدنا ابن رشد منبوذاً جراء ما دار في رأسه من أفكار. ولعلنا بهذا الاستحضار نحاول أن نتصالح مع ذواتنا بكامل أبعادها: جسمياً وجنسياً وهوياتياً وأدبياً، وأن نحاول أن نجلس بهذا "الكل" مع آخرين من حضارات أخرى كالغرب مثلاً.
وهنا أردنا أن نتصور جلسة هادئة في مقهى وسط البلد، في نهار مشمس كسول، بين الجاحظ وميشيل فوكو وأبي نواس وسيغموند فرويد للحديث في الجنس. وقد يتراءى لنا هذا الحديث مستحباً في صخب ما بعد الحداثة الذي نعيشه، خاصة وأنها حقبة أثّرت في كل المفاهيم وأعادت صياغتها —بما في ذلك الجنسانية نفسها— واقتحمت حياتنا التي نسميها "اليومية".
فضل الجاحظ في الجنسانية.. فوكو غيّور
يطرح ميشال فوكو إشكالات الجنسانية من وجهة نظر ركزت على الخطاب واللغة بالأساس. فقد اعتبر أن محددات الخطاب الخاصة بالذكور والإناث كل على حدة هي التي أدت بالذكر إلى سلك سلوك الرجال والإناث إلى سلك سلوك النساء الأمر الذي يؤكد ما قالته سيمون دو بوفوار عن المرأة "لا نولد نساء بل نصبح كذلك" (On ne nait pas femme on le devient).
ومن خلال مقاربة الخطاب الذي تبناه فوكو لتحليل مسألة الجنسانية، أصبحت الفوارق بين الجنسين غير ذات معنى، طالما أنها حددت بمفردات دخلت ضمن ثقافتنا اليومية في شكل خطاب اجتماعي موجه للأنثى والذكر، وما يحمله هذا الخطاب والذي أسماه بـ"خطاب القوة" من قدرة هائلة على إبراز الذكر في شكله القوي والمسيطر، وإقصاء الأنثى ووضعها في كثير من الأحيان فيما يسميه بموضع "الخارج عن السياق".
ويقول ميشال فوكو في هذا الإطار "بدلاً من الاهتمام المنتظم بإخفاء الجنس وبدلاً من الاحتشام العام المفرط للغة، فإن ما يميز القرون الثلاثة الأخيرة هو التنوع، الانتشار الواضح للحيل التي تم اختراعها من أجل الحديث عنه ومن أجل جعله معلناً... وهذا مصدره الرقابة الاجتماعية الهائلة"، والمقطع من كتاب تاريخ الجنسانية لميشال فوكو.
يستغرب الجاحظ ما يقوله فوكو كأنه ينتقد مسار الحداثة بكامله، وذلك عبر التعجب من هذا الكبت المروّع الذي يعيشه الإنسان المعاصر، عكس ما كان ينعم به الجاحظ أيّام الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم. وقد كانت حقبة مشهوداً لها بالرقي والازدهار في كافة المجالات وخاصة في العلوم والمدارس والفنون والجيش... والجنس أيضاً. فبغضّ النظر عن الغلمان والجواري، وعن الشعراء الذين تحدثوا صراحة وعلانية عن الجنس ودونوه في شعرهم ونثرهم، فإن الجاحظ كان قد دون نوادر النساء العربيات مع الجنس وكيف كنّ يستجبن لمعاكسات الرجال في الشوارع.
وقد ورد في كتابي الجاحظ "الحيوان" و"الرسائل" فصولاً خصبة لحكايات النساء وأقاويلهن في الجنس دون أي تلميح أو خجل إذ لم يكن موضوع الجنس يمثل تابوهاً في عهد الجاحظ. ومن هذا المضمار قال في الجزء السادس من كتاب الحيوان "الخطوط ومرافقها":
"زعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جارية لقوم، فراوغَتْه فلم ينقطع عنها، فحثّت في المشي فلم ينقطع عنها، فلما جازت بمجلس قوم قالت: يا هؤلاء، لي طريق ولهذا طريق، ومولاي ينيكني فسَلوا هذا ما يريدُ مني؟"
ويقول أيضاً في نفس الباب معبّراً عن استغراب الجواري من معاكسات الرجال لهن (كأن الجاحظ كان يكافح التحرش أيضاً) "وزعم أيضاً أن سيارا البرقي قال: مرّت بنا جارية، فرأينا فيها الكبر والتجبّر، فقال بعضنا: ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيكها، فقالت: كما يكون".
كما ورد في كتاب الرسائل "مفاخرة الجواري والغلمان"، نادرة لامرأة اسمها سلّامة الخضراء وقال عنها:
"كانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلاّمة الخضراء، فأُخذت مع مخنّث وهي تنيكه بكيرنج، فرفعت إلى الوالي فأوجعها ضرباً وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجل يعرفها فقال: ما هذا يا سلاّمة؟ فقالت: بالله اسكت، ما في الدنيا أظلم من الرجال، أنتم تنيكوننا الدّهر كله فلما نكناكم مرة واحدة قتلتمونا".
لقد وصل الأمر بالجاحظ إذاً إلى تدوين حكايات النساء مع الجنس، وما كتب أعلاه ليس سوى النزر القليل مما كتبه في هذا الباب، ولا يمكن وضعها كلها في هذا المقال لأن المجال لا يتسع. ويمكن للقارئ أن يبحث أكثر ويقرأ أكثر حتى يكتشف أن العرب لم ينتظروا جلاء سلطة الكنيسة ونشأة الحداثة وتطورها كي يكون موضوع الجنس مطروحاً، رغم هذا الخجل الذي لا يزال يحيط بلغة الجنس داخل الخطاب العام.
لكن الفروق تكمن في أن ميشال فوكو تمكن من وضع موضوع الجنس داخل سياق علمي ـ إبستيمي اتسم بالشمولية السوسيولوجية والسيميائية، وأسس لمعرفة جنسانية لها منهجها وخصائصها وهذا يعود طبعاً إلى منطق تطور العلوم عبر التاريخ، الأمر الذي حرم منه الجاحظ سابقاً.
فرويد قارئاً أبا نواس
يعتبر أبو نواس مادة ضخمة وممتازة بالنسبة لمؤسس مدرسة التحليل النفسي سغموند فرويد. فالشاعر العربي الذي عاش في أوج الدولة العباسية كان قد اشتهر بقصائده عن الخمرة وعن الخصيان، وله ميول شديدة للمثلية حتى أنه انقطع عن النساء وبقي زمناً طويلاً لا يعاشر سوى الصبيان، فأنشد في حسنهم وبهائهم ومتعة الجنس معهم الكثير من الأشعار، حتى أنه ورد في كتاب "أخبار أبي نواس" لأبي هفان بن حرب المهزي أن أبا نواس جاء إلى أهله يوما فلاموه وحرضوه على الزواج بعد أن كبر في العمر "فما زالوا به حتى زوجوه إمرأة جميلة. فلما دخل عليها أعرض عنها وتركها وذهب إلى الغلمان (...) وعند عودته مساء طلقها، وقال:
لا أبتغي بالطمث مطمومة لا أبيع الظبي بالأرنب
لا أدخل الجحر يدي طائعاً أخشى من الحية والعقرب"
لم يكن ردّ فرويد بالغريب، وقد كان يشعر أنه محاط بفضوليين يسترقون السمع في المقهى ويحاولون نقده، لكنه أجاب أبا نواس بما نعرفه عن فرويد في إعادة كل سلوك جنسي إلى الطفولة (دون أي أحكام أخلاقية). ويقول فرويد على لسان المغربي محمد النويهي في كتابه "نفسية أبي نواس": أن شعر أبي نواس مفعم بهذا الكم من الإبداع نتيجة فقدان الشاعر لأبيه في سن مبكرة وزواج أمه من رجل آخر، ويضيف "العامل النفسي جاءه من التأثر بأحداث طفولته، إذ توفي والده وهو طفل، ولم يجد في نشأته الأولى أباً يرعاه رعاية الأبوة، ولم يكن له سوى أمه يلتمس في صدرها الحماية والغوث، ولكنها تزوجت بعد وفاة أبيه، فحرمته بذلك ملاذه الأوحد في طفولته مع الرجل الغريب الذي انتزع أمه".
وحسب فرويد، فإن أبا نواس لم يكتمل نموه الجنسي بشكل طبيعي وتوقف عند عقدة أوديب، الأمر الذي جعله شديد التعلق بأمه والتي يرى (في عقله الباطن) أنها خانته وذهبت مع رجل آخر وتركته وحيداً وتلك عقدة أبي نواس من أمه وبالتالي من باقي النساء. ويدل مضمون شعره السلبي تجاه خصائص النساء على أنه رافض لميزات المرأة الجوهرية كالحيض والعضو الأنثوي. وهو في حقيقة الأمر لا يقصد تلك الأعضاء في ذاتها بل يرمز إلى "الرحم" من خلال الحيض (أو الطمث) ويرمز إلى كره الأمومة من خلال حديثه السلبي عن العضو الأنثوي أو الأثداء.
الجاحظ وميشيل فوكو والجنسانية
لقد سبق الجاحظ ميشيل فوكو في اكتشاف حقل غني يسمى اليوم بالجنسانية لكن فوكو تفوق عليه بأن أعاد تشكيل ذلك الحقل بمعاجمه وتعبيراته ورموزه ووضعه داخل إطار علمي شديد الحساسية والتحرك وهو السوسيولوجيا، كما ولّد من خلال ذلك رؤية فلسفية لنقد المجتمع الذي نحن عليه اليوم من خلال الخطاب. وفي الوجه المقابل لم يعد أبو نواس بذلك النرجسي الذكي، الذي لا يجد صعوبة في "نكح" من أراد —خاصة من الغلمان— أو أن يمنّ بفضله على امرأة فيعيرها جسده، فالمقاربة الفرويدية يمكن أن تكشف الجانب المظلم من إبداعه الشعري والخيالي واللغوي بإعادته إلى الطفولة والإيروس.
لكن.. إن استراق السمع لهذه الشخصيات وهي ترتشف قهوتها وسط البلد يزيد من تعميق الحيرة رغم إمكانية مساءلة كل منهم بشكل مباشر، وتكمن الحيرة في جملة من الأسئلة لعل أهمها "هل استطاع الغرب أن يتجاوز فعلاً عقدة الجنس؟" و"ألا يمكن أن يكون تراثنا العربي ملاذاً لنا كي نتصالح مع أجسامنا بدل أن يكون هذا التراث حاجزاً بيننا وبين ذواتنا؟" وأخيراً "هل كان لدى الغرب قبل قرون أبو نواس إفرنجي أو إيطالي أو جرماني؟ أم أن الحداثة، وما بعدها، مكنتهم من كسر الحاجز ولو نسبياً؟"