تتوالى الكوابيس تباعاً في هذا البلد الصغير على كل إرث بيئي أو ثقافي، وكأن سماسرة "الباطون" لهم ثأراً مع الطبيعة التي التهمها الحجر ولم يبقِ لنا منها إلا القليل الذي ما مل يحكي لنا قصة وطن يعيش أزمة انفصام مع هويته، وتاريخه، وبيئته، وثقافته، وتراثه.
أما قصتنا اليوم فهي من جنوب لبنان، عن شاطئ تاريخي وأثري يتجاوز عمر أجرانه الفخارية 5 آلاف سنة، كانت قد أخذت قوى أمر الواقع المسيطرة على الاستثمارات جنوباً قرارها منذ ثلاثة أعوام بتدمير هذا الشاطئ لصالح مشروع مشبوه بهدف بناء "مرفأ للصيد والنزهة"، يقوم على مساحة 164 ألف متر مربع، أي ما يفوق مساحة مرفأي صيدا وصور حجماً، وبناء 9 أحواض ضخمة لـ 400 مرسى للصيادين، بكلفة 40 مليار ليرة في قرية ساحلية لا يوجد فيها صيادون ولا يخوت ولا بواخر. وبحسب معلومات "ليبانون ديبايت"، فإن المشروع سيتحول في مرحلته الثالثة إلى مارينا سياحية يعود ريعها، بحسب مصادر محلية، لشخص مقرّب من عائلة شخصية سياسية بارزة.
تستمر أعمال الجرف التي تقوم بها شركة خوري للمقاولات الملتزمة أشغال مرفأ عدلون الجاري العمل به منذ كانون الثاني من العام الماضي، وتستمر معها مخالفة القانون 444\2002 والمرسوم 8633\2012 الذي يُلزم إجراء دراسة تقييم أثر بيئي لأي مشروع مقترح قبل المباشرة به.
ولكن كأن مساحة الاعتداء التي يحتلها المشروع لم تُشبع نهم المستثمر أو المتعهد، فقرروا الاعتداء على مساحات جديدة لم يشملها مخطط الاعتداء الأول، إذ رصدت جمعية الجنوبيون الخضر أعمال جرف وتسوية أرض ونقل حصى جنوبي الموقع وخارج مخطط المرفأ على شاطئ البلدة، ما يزيد من رقعة الاعتداء غير الشرعي على الشاطئ ويفاقم إلحاق الضرر بعناصره البيئية والتاريخية.
تؤكد المهندسة آية عبود من جمعية الجنوبيون الخضر في حديث لـ"ليبانون ديبايت" على أن الأعمال لم تتوقف في مرفأ عدلون منذ أن بدأت قبل عام. وتلفت إلى أن معركة "الجنوبيون الخضر" للحفاظ على مرفأ عدلون بدأت العام 2014، وكانت عبر كتب تناهض المشروع وتلفت نظر المعنيين على أهمية الموقع التراثية والبيئية، على صعيد جميع الوزارات والإدارات الرسمية المعنية، من وزارة البيئة إلى وزارة الأشغال، وصولاً إلى المديرية العامة للآثار ولكن من دون جدوى.
و"كان وزير البيئة السابق محمد المشنوق قد أرسل عدة كتب لوزارة الاشغال يطالبها بوقف الأعمال في عدلون، ولم تستجب الأخيرة. أما الوزارة الحالية، فطالبتنا بمستندات عدة لتدرس إمكانية الاعتراف بمرفأ عدلون كموقع طبيعي، وكنا قد قدمنا لها المستندات المطلوبة وحتى اليوم لم نتلقَ رداً منها. أما مديرية الآثار كانت قد وعدتنا بتصنيف عدلون كشط أثري على أن ترسل فريقاً للكشف على الموقع. وفي المرة الأولى تصادم الفريق الكشفي مع المتعهد، ما حال دون حصول الكشف، فعاودنا الطلب من المديرية وجددت بالتالي وعدها بإرسال فريق للكشف لم يأتِ حتى اليوم"، وفقاً لعبود.
وتقول عبود إن "مماطلة وإهمال الإدارات الرسمية أوصلتنا لمرحلة الاستسلام للأمر الواقع، وقررنا الاستمرار بالمعركة ولكن لحفظ ما تبقى من الشاطئ، وهي تقارب مساحتها الـ 4 كلم، ولكن تفاجأنا منذ أسبوع أن الاعتداء تجاوز مخطط المشروع ليشمل رقعة أكبر، الأمر الذي سنحاول متابعته مع وزارة البيئة ومديرية الآثار للحصول على تصنيف عدلون كمحمية طبيعية وكشط تراثي لتأمين الحماية لما تبقى منه".
وعن أهمية مرفأ عدلون، تؤكد جمعية "الجنوبيون الخضر" أن الشاطئ يتمتع بغناه الحيوي والتاريخي والبيئي الذي يشكل "أسباباً موجبة" لإعلانه محمية طبيعية وأثرية ومنع أي أعمال إنشائية عليه.
تاريخياً، يبلغ طول ساحل عدلون عقارياً قرابة 8 كلم، وهو امتداد لكهوف عدلون التاريخية التي تبعد عنه 300 متر، وتعد اول كهوف مأهولة بالشرق. ويعود تاريخ السكن فيها الى 8000 سنة، ولا ننسى ان عدلون هي نفسها مدينة مآروبو التاريخية التي كانت تقع ما بين صيدا وصور وخض ملوكها لملك صيدا تارة ولملك صور تارة أخرى وكانت مدينة فينيقية مأهولة. وكان على اطرافها ثلاثة مرافئ فينيقية، وتشير لهذا الموضوع الأجران وبقايا الملاحات والغرف التي ما زالت موجودة في المنطقة ومناطق العصر والاحجار التي ما زالت على شاطئ البحر مباشرة.
بالاضافة إلى غناه الأثري، يعد شاطئ عدلون أحد آخر موائل سلاحف البحر المهددة بالانقراض ولا زالت مجموعات منها تعيش على مقربة من الشاطئ فيما تتردد بعضها على الشواطئ الرملية في مواسم معيّنة على الرغم من انتشار استعمال الديناميت لصيد الاسماك الموسمية التي تحملها التيارات البحرية الى خليج عدلون، تحديدا في المنطقة المسماة بـ"الوحلة" والتي تستقطب كميات كبيرة من تلك الاسماك، والتي سيدمرها المشروع بشكل كامل، وبالتالي تدمير الثروة السمكية.
فهل ستحمي كل هذه الميزات البيئية، الحيوية والتراثية بعض الكيلومترات المتبقية من شاطئ عدلون، أم أن جنون الاستثمارات سيمحو أي أثرٍ له بمباركة صمت الوزارات المعنية؟