شدّد السيد حسن نصر الله في كلمته التي رافقت التظاهرة التي نظّمها "حزب الله" في الضاحية الجنوبية تضامناً مع القدس، على أنّه قد "تمّت الحجّة اليوم بعد قرار ترامب وسلوك الإدارة الأميركية، على كل الذين يراهنون على تدخّل أميركي لمصلحة فلسطين أو الشعوب بوجه اسرائيل، والحجة على كل الذين سلكوا طريق المفاوضات العقيم".
يلتقط هذا الكلام، بالفعل، لحظة مأزقيّة بامتياز بالنسبة لكل من خاض في شروط إمكان التسوية، للصراع العربي ـ الإسرائيلي ككل أو للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بالتحديد. فمن بمستطاعه اليوم، بعد ما يقارب ربع القرن على "إتفاق أوسلو" أن "يبشّر" بطريق المفاوضات؟ لن يتوقف الأخذ والردّ يوماً حول الإحتمالات المتناقضة التي سمح بها إتفاق أوسلو، ولا حول العوامل الموضوعية التي دفعت إليه (نهاية الحرب الباردة، انكفاء الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، وزر انحياز منظمة التحرير للعراق نهاية الثمانينيات)، والذاتية (التسابق بين المسارين الفلسطيني والسوري).
سمح أوسلو لقيادة منظمة التحرير بأن تعود من المنفى إلى جزء من أرض فلسطين، وأن تسعى لتجسيد حركة "البحث عن كيان"، انطلاقاً من تجربة الحكم الذاتي. بعد أن كانت منظمة التحرير مستبعدة عن مؤتمر مدريد، أتاح أوسلو لمنظمة التحرير تكريس مرجعيتها التمثيلية. وفي المقابل، جاءت تجربة "السلطة الوطنية" للحكم الذاتي على حساب هيكلية منظمة التحرير وحيثيتها، أما الفصل بين مفاوضات "الوضع الإنتقالي" و"الوضع النهائي" فكان من الأساس بمثابة قنبلة موقوتة داخل إتفاق أوسلو نفسه، عادت وانفجرت ما إن انتقل التفاوض على "الوضع النهائي"، وخصوصاً حول مسألتي القدس، وعودة اللاجئين. اقتنص ارييل شارون في أيلول 2000 لحظة التصلّب في المفاوضات لتفجير الوضع من خلال زيارته الإستفزازية للحرم القدسي التي أشعلت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية. ليس هناك "انتفاضة دائمة" في الأراضي الفلسطينية ولو كانت هناك مواجهة يومية متواصلة مع الإحتلال. هناك عشر سنوات فاصلة، على الأقل بين الإنتفاضتين. أمكن للإحتلال محاصرة الأولى في ظروف اقليمية ودولية محددة، مع نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية، وعكس أوسلو هذه الظروف إلى حد كبير، مثلما عكس أزمة الإحتلال الإسرائيلي نفسه في المناطق الفلسطينية. أما الإنتفاضة الثانية، فنشبت في ظروف مختلفة، جزء منها تراكم بفعل نشأة السلطة الوطنية نفسها، وبفعل وجود الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الأراضي الفلسطينية، وليس في المنفى، وبفعل اتخاذ الصراع طابع مواجهة مباشرة ليس فقط مع جيش الإحتلال، وإنما بالتوازي مع ميليشيات المستوطنين في الضفة الغربية. لكن الإنتفاضة الثانية وصلت إلى لحظة لا يمكنها تجاوزها بالنتيجة. فالجمع بين المسار التفاوضي وبين المسار الإنتفاضي، الذي تبناه ياسر عرفات في تلك الفترة، ظلّ يناقضه دعاة المسار التفاوضي فقط، ودعاة المسار الإنتفاضي فقط، وتمكّنت آلة القمع الإسرائيلية من محاصرة مناخ الإنتفاضة الثانية، وكان جوابها على "مبادرة السلام العربية" التي تبنتها قمة بيروت الإمعان في اضطهاد الشعب الفلسطيني وفي محاصرة ياسر عرفات.
ليس هناك أفق اليوم للرهان على مفاوضات جديدة وجديّة. وهذا لسببين، أولهما أن ما تطرحه ادارة دونالد ترامب لا يمكن لمنظمة التحرير، أو لـ "فتح"، أو للسلطة الفلسطينية، تبنيه، بأي شكل كان، وخطوة ترامب المتعلقة بالسفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل هي في جانب أساسي منها اجراء عقابيّ ضدّ المفاوض الفلسطيني لأنّه لم يقبل بالعروض الهوائية التي قدّمت له في الأشهر الماضية. أما السبب الثاني فمختلف، وهو أنّ المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية لا تكترث جديّاً حتى لعروض التسوية التي يسوّق لها صهر ترامب، جاريد كوشنير، وتفضّل ابقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، من جدار وفصل عنصري وقضم واستيطان، دون أن تكون مضطرّة حتى لتفكيك ولو مستوطنة واحدة في الضفة الغربية. في مشروع ترامب هناك طرح استفزازيّ: تنازُل الفلسطينيين عن القدس الشرقية، لإعطائهم "عاصمة" في ضاحية لها، أبو ديس. أما الجانب الإسرائيلي فأصبح يدرك تماماً أنّ هكذا طرحاً لن يجد فلسطينياً واحداً قادراً على قبوله، وبالتالي الإسرائيليون يوافقون تماماً على عروض ترامب هذه لكنهم لا يعيرونها الجدية الكافية، ولا تنقصهم المعلومة لمعرفة أن وضع ترامب الرئاسي نفسه غير مستقرّ.
لا يمكن اختزال اتفاق أوسلو قبل ربع قرن إلى "طريق مفاوضات عقيم". أتاح أوسلو وقائع متناقضة، خصوصاً مع وجود ظاهرة كياسر عرفات، الذي تمكّن في لحظة انفجار عملية التسوية، من أن يجمع بين المسارين الإنتفاضي والتفاوضي في وقت واحد، ولو أنّ هذا الجمع لم يستطع أن يستمرّ، ولا أن يجد جسماً كفاحياً منظماً قادراً على المضيّ به، فكتبت الغلبة لمن يراه مساراً مسلّحاً فقط، ولمن يراه مساراً تفاوضياً فقط، وانفصلت غزة عن الضفة لسنوات نتيجة لذلك.
أمّا اليوم، صحيح، ليس هناك لحظة تفاوضية ولا أفق تفاوضيّ في الأمد الراهن. بالدرجة الأولى لأنّ اسرائيل لا تريد حتى طروحات كوشنير وترامب، ولأنّها تدرك أنّه ليس هناك أي فلسطيني يقبل بطروحات كوشنير وترامب أو يمكنه فعل ذلك. في المقابل، لا يمكن اعتبار "ترامب" تلخيصاً لكل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط من الخمسينيات إلى اليوم. ترامب لحظة ترنّح خطيرة. لا يعني هذا أنّ الإدارة الأميركية كانت في أي يوم من الأيام "متوازنة" في موقفها من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. كانت دائماً منحازة إلى اسرائيل. لكن الإنحياز يختلف في الدرجة، وفي القصد. لم تتوقف الولايات المتحدة في أي يوم عن كونها دولة امبريالية في نظرتها الى القضية الفلسطينية، حتى في ظل باراك اوباما، الذي وصل الجفاء بينه وبين حكام اسرائيل الى نقطة متقدمة. لكن الولايات المتحدة لم تكن في أي يوم مضى مثلما هي عليه الحال مع رئاسة دونالد ترامب. هل يعني أن ترامب "يلخّص" كل تاريخها؟ يصعب قول ذلك، خصوصاً وأن من دواعي قرار ترامب الأخير محاولة تملّصه من الضغوط الداخلية التي تطاول رئاسته.