وفي تتابعٍ سريع، زار بوتين سوريا ومصر، حيث التقى برئيسي الدولتين، ثمّ غادر إلى العاصمة التركية أنقرة لاحقاً في اليوم نفسه، وفق ما نقلت "هافنغتون بوست" عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
وجاءت جولة بوتين القصيرة بينما يتصاعد الغضب تجاه الولايات المتحدة الأميركية بشأن قرارها الاعتراف بالقدس، عاصمةً لإسرائيل.
إنجاز أو صداقة معلنة
وبحسب التقرير، فقد كانت لجولة بوتين توابع محلية أيضاً، إذ تستعرض دوره كرجلِ دولةٍ عالمي بينما يشرع في حملته لدورته الرئاسية الخامسة، وربما الأخيرة. وفي كلّ محطةٍ من هذه الجولة، كان ثمة إنجازٌ أو صداقةٌ يُعلَن عنها.
وفي زيارته القصيرة للقاعدة الجوية الروسية في سوريا، حيث استقبله الرئيس السوري بشَّار الأسد، قال بوتين مرةً أخرى إنّ الجيش الروسي أنجز مهمته وسيعود إلى بلاده، الأمر الذي كان قد تعهَّد به في أذار 2016 وأخلفه مراراً في السابق.
وفي مصر، ناقش بوتين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قضايا عدَّة عكست دور موسكو المُتمدِّد. وأكَّدَ الرئيسان في مؤتمرٍ صحافي أنّ روسيا قد وافقت على استئناف الرحلات السياحية المباشرة إلى مصر، تلك الرحلات التي عُلِّقَت منذ تفجير طائرة روسية في شبه جزيرة سيناء في العام 2015، الأمر الذي يستعيد لمصر عائداتٍ بمليارات الدولارات. وأكَّدَ الرئيسان كذلك على توقيع عقدٍ يقضي بأن تبني روسيا مفاعلاً نووياً هو الأول من نوعه في مصر بتكلفة 30 مليار دولار. وفي وقتٍ سابق من الشهر الماضي، تشرين الثاني، أُفيدَ بأنّ البلدين يبحثان اتفاقيةً تقضي بأن يستخدم سلاح الجو الروسي القواعد العسكرية المصرية.
وكانت زيارة تركيا هي الأخيرة ضمن جولة بوتين يوم أمس الاثنين، وتركَّز جدول أعمال الزيارة على محادثات سياسية تتعلَّق بإنهاء الحرب فى سوريا وشراء تركيا نظام الدفاع الصاروخي المُتقدِّم من طراز إس-400 روسي الصنع. وكانت روسيا قد رفضت في السابق عملية البيع تلك، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال في مؤتمرٍ صحافي مشترك عُقِدَ أمس إنَّ البلدين سيجتمعان هذا الأسبوع ليتوصَّلا إلى قرارٍ بضرورة العمل بنظام "أس-400".
وكانت هذه هي المرّة الثامنة التي يلتقي فيها بوتين وأردوغان هذا العام، وفي الآونة الأخيرة أصبح الاثنان يجتمعان كلّ أسبوعين، وفق التقرير.
روسيا المستفيدة من تراجع واشنطن
وقد استفادت روسيا استفادةً كاملةً من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة بالشرق الأوسط، وخاصة سوريا، لتُعيد بناء علاقاتٍ مع عواصم مختلفة مثل القاهرة، تلك التي طُرِدَ منها السوفييت في أوائل السبعينيات بعد سنواتٍ من التعاون العسكري الوثيق.
ووفقاً لما ذكرته وسائل الإعلام الروسية، فإنّه رغم ثقة بوتين من انتصاره فى الانتخابات الرئاسية في آذار من العام المُقبل 2018، فإنّه يسعى للحصول على مستوى عالٍ من الدعم وإقبال قياسي في عملية الاقتراع.
وينقل التقرير عن مُحلِّلين، إشارتهم إلى أنّ تحقيق بوتين لهدفه يحتاج إلى خلق بعض الزخم في ظل حملةٍ باهتة، كما يحتاج على الأقل إلى التركيز على القضايا المحلية، حتى لو كان يتحمَّس شخصياً بشكلٍ أكبر لمناقشة السياسة الخارجية مقارنة بالحديث عن إصلاح الطرق. وبالتالي، يرغب بوتين في تقليل الدور الروسي في سوريا إلى حدٍّ كبير قبل أن تشتعل الحملة الانتخابية في مطلع شباط المقبل.
وقال كونستانتين فون إيغرت، المُحلِّل السياسي الذي يُقدِّم برنامجاً في قناةٍ تلفزيونيةٍ مستقلة: "لا يهتم الناس إلى هذه الدرجة بشأن سوريا، إنّها بلدٌ بعيد لا يعرفه الكثيرون". وبقول إيجرت ومُحلِّلين آخرين إن الروس إذا فكروا يوماً بسوريا، فإنَّهم يتساءلون عادةً عن سبب إنفاق الكرملين الأموال على منطقةٍ مأهولةٍ بهمجيين يقتلون بعضهم بعضاً.
وفي ما يخصّ سوريا، يُكرِّر بوتين قوله بأنّ القوات الروسية قد هزمت تهديد "المُتشدِّدين الإسلاميين" حين اضطروا لمواجهتهم قبل عامين، وذلك رغم اعتقاد الكثيرين بأن الهدف الحقيقي هو دعم الأسد الذي كان وقتذاك يُمثِّل الحليف الأخير لروسيا بالمنطقة.
وقال بوتين في كلمة ألقاها في قاعدة حميميم الجوية بسوريا: "في غضون عامين، هزمت القوات المسلحة الروسية، جنباً إلى جنب مع الجيش السوري، أكثر الجماعات الإرهابية تمرُّساً على القتال. وقد اتَّخذتُ قراراً في هذا الشأن بعودة جزء كبير من الوحدات العسكرية الروسية في الجمهورية العربية السورية إلى روسيا".
وترك بوتين لنفسه مساحةً كبيرةً للمناورة بقوله إنّ "جزءاً كبيراً" من القوات سيعود إلى الديار، وأشار إلى أنّ روسيا أسَّسَت وجوداً دائماً في سوريا من خلال قاعدة حميميم وقاعدة طرطوس البحرية المُوسَّعة.
وكان ديمتري بيسكوف، المُتحدِّث باسم بوتين، أكثر غموضاً حين قال إنه لا يوجد جدولٌ زمني مُحدَّد للانسحاب. وقال: "من الواضح أنّها مسألة لا تنتهي بين ليلةٍ وضُحاها".
ورأى بعض المُحلِّلين أنّ "زيارة بوتين وتصريحاته عن الانسحاب يُمكن النظر إليها جزئياً بوصفها محاولة للضغط على الأسد، الذي أظهر حتّى الآن رغبةً بارزةً في تحدي هدف روسيا المُعلَن بشأن إجراء عملية سياسية حقيقة، وذلك رغم اعتماده الكبير على القوة الروسية".
وبحسب التقرير، فقد ساعدت روسيا أيضاً في دفع محادثات السلام الدولية بعيداً عن توافقٍ مُبكِّرٍ حول استقالة الأسد كشرطٍ مُسبَّقٍ لإجراء أي عمليةٍ انتقالية.
لكنّ موسكو لا ترغب في تقديم دعم لأجل غير مسمى لدولة سورية ضعيفة وذات شرعية غير مستقرة. وحرص بوتين على الإعلان المذكور أعلاه لا ليؤكِّد الانتصار العسكري فحسب، بل ليُعزِّز قيادته للجهود الدبلوماسية الدولية التي يَنظر إليها باعتبارها تجلٍّ لعودة روسيا إلى الساحة العالمية على قدمِ المساواة مع الولايات المتحدة.
ويشير مُحلِّلون في هذا السياق، إلى أنّه إذا لم يحدث أيّ شيء جوهري في جنيف، أو في ساحة المعركة السورية، فإنّ إعلان بوتين عن انسحاب القوات سيبدو مرتبطًا بالسياسة الداخلية لروسيا أكثر من ارتباطه بسوريا.
ووفقاً لما ذكره هاكان أكساي، المُحلِّل والكاتب الروسي، لموقع الأخبار التركي المستقل"T24"، فقد كان من المُتوقَّع أن يسعى بوتين إلى الحصول على دعم أنقرة بخصوص احتواء "الميليشيات الإسلامية" في محافظتيّ إدلب وحلب شمالي سوريا، وأنّه سيضغط على أردوغان للاعتراف بالأسد بوصفه الزعيم الشرعي لسوريا.
وقال أردوغان في مؤتمرٍ صحافي إنّه بعد مناقشة القضية السورية مع بوتين، أمس الاثنين، فإنّ الخطوة التالية هي عقد اجتماع ثان في منتجع سوتشي بروسيا. ووصف العلاقات الوثيقة بين روسيا وتركيا بأنّها "جوهرية لتحقيق الاستقرار في المنطقة".