في قرار دونالد ترامب الأخير حول مدينة القدس، حضرت جوانب مهمّة وغاب جانب لا يقلّ أهميّة.
حضر الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيّون، ولا عقلانيّة عقل ترامب السياسيّ، وتوسّعيّة الكيان الإسرائيليّ وعنجهيّته. ما غاب هو أنّ القدس مدينة أخرى تعدّديّة التكوين من مدن المشرق والشرق. ولئن تعدّدت الأسباب، وكثرت السكاكين القاتلة واختلفت، بقي الموت واحداً في ما خصّ هذه المدن.
فبالأمس شهدنا ما حصل للموصل وللرقّة، وكذلك لكركوك، التي هي كرديّة وتركمانيّة وعربيّة في الوقت نفسه. وقبيل ذلك، كانت مدينة حلب تنشطر إلى نصفين شرقيّ وغربيّ، بما يدمّرها كنسيج مدينيّ كان ذات مرّة واحداً، كما كان كوزموبوليتيّاً.
ولا تزال الرضوض والندوب ظاهرة على وجه بيروت وروحها، وعلى ضعف التواصل بين شطريها الشرقيّ والغربيّ الذي بدأ مع الحرب أواسط السبعينات. أمّا الإسكندريّة فمنذ تمكّن النظام العسكريّ من مصر في الخمسينات، جرى تجفيفها من التعدّد الذي عُرفت به. وحين يقال اليوم «تهويد القدس» يأتي التعبير بعيداً في دلالته التعيسة هذه، أي في الإفقار والمصادرة اللذين يضربان التركيب السكّانيّ والثقافيّ مثلما يصيبان تاريخ المدينة المتعدّد الطبقات.
ولئن راج في الآونة الأخيرة الكلام عن «انهيار الدول والأوطان»، أو «ضياعها»، فإنّ ما يبدو اليوم هو الانتقال إلى محطّة أخرى أشدّ تفصيلاً وداخليّةً، هي انهيار المدن أو ضياعها. وهذا بدوره من نتائج الاستبداد والأحاديّة وفرض اللون الحصريّ لجماعة بعينها، أكانت قوميّة أو دينيّة أو غير ذلك، فإمّا الإذعان للون وهويّة واحدين أو الدمار.
وإذا وضعنا جانباً الحميّة الدينيّة والقوميّة، تساوى في هذه النتيجة ما يفعله عرب وأكراد وإسرائيليّون وسواهم من شعوب المنطقة وجماعاتها.
إنّ واقع المدن ورسم مستقبلها لا يقرّرهما نصّ دينيّ أو أسطورة إثنيّة يعطيان الأولويّة والحصريّة لشعب ما، أو لجماعة ما، على حساب الحياة نفسها بسيولتها وكثرتها. لكنْ للأسف، فهذا ما يحدث الآن، وسريعاً ما سيغدو جزءاً من الماضي، نتعامل معه كأنّه الواقع المعطى الذي لا يرقى الشكّ إليه.
يكفي أن نقارن ما يحصل راهناً بما سبق أن أكّده مؤرّخون للبحر الأبيض المتوسّط وحضاراته، بوصفها كثيرة التراكم والاستمراريّة، قليلة الانقطاع. أمّا اليوم فيحصل في تاريخنا انقطاع ربّما كان غير مسبوق في مداه ونطاقه، وفي كارثيّته بالتالي. إنّنا نغدو بلا مدن وبلا بلدان.
وهذا فيما يمارس النظام الإيرانيّ بدوره ما أسماه الزميل حازم الأمين «لعباً بأصل الأشياء في المنطقة»، على شكل إزاحة لجماعات من مواضعها، وربط وفكّ لبلدان هذا الإقليم. أمّا أحد تابعيه، السيّد قيس الخزعلي قائد «عصائب أهل الحقّ» العراقيّة، فيكون الشتوة الأولى التي تهبط علينا من جرّاء الطرح المعهود لمسألة القدس بوصفها قضيّة لا بوصفها مدينة وسكّاناً، وبوصفها خلطة تخلط كلّ شيء بكلّ شيء آخر. وقس على قيس من خراب عميم مرفق بكلام يعرف أصحابه أنّه لا يعني شيئاً ولا يؤدّي إلى شيء، وإلاّ هل كان لوزير خارجيّة لبنان السيّد جبران باسيل أن يطالب بعقوبات على أميركا!