في ظل تفاعلات إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتراف بلاده بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وبدء إجراءات نقل السفارة اليها من تل أبيب، يبدو الموقف الرسمي اللبناني أقرب إلى حركة ”الجهاد الاسلامي“ الملتزمة بالكفاح المسلح نهجاً أبدياً، من أجواء الشارع الفلسطيني المطالبة بانتفاضة ثالثة ضد الإحتلال الاسرائيلي.

والقناعة الفلسطينية بفاعلية الحراك السلمي، من سلاح المقاطعة إلى الانتفاضة السلمية، مصدرها تجارب العقود الماضية في الكفاح المسلح. ففي ظل اختلال موازين القوى، انحصر العنف بعمليات إنتحارية أو خطف طائرات أو اطلاق صواريخ. وفي ضيقه هذا، ساعد الكفاح المسلح طرفين: الاحتلال الاسرائيلي والأنظمة القمعية في المنطقة. اسرائيل وظّفت العنف الفلسطيني لتأليب الرأي العام الدولي ضد القضية الفلسطينية ومساواتها بالارهاب. والأنظمة القمعية فتحت عبر العنف نافذةً لتأسيس نفوذ لها في إطار الصراع الاقليمي.

في المقابل، عززت الانتفاضة الأولى الموقف الوطني الفلسطيني، وضاعفت أثمان الإحتلال، رغم أنها انطفأت دون مقابل عملي. وأي احتكاك بالجيل الجديد من فلسطينيي الضفة الغربية أو غزة، يؤكد هذه القناعة. المطلوب اليوم حراك سلمي أكثر فاعلية في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي.

يتطلب مثل هذا الحراك من الدول العربية دعماً وتضامناً أكثر ثباتاً، إن كان مادياً أو سياسياً أو لناحية المشاركة الفاعلة في المقاطعة ومواجهة محاولات التطبيع الرسمية العربية الجارية حالياً على قدم وساق. لكن بوصلة هذه التضامن يُحددها الموقف الفلسطيني، لا المحور الإيراني أو القوى المهرولة إلى التطبيع مع اسرائيل. آخر ما تحتاجه القضية الفلسطينية أن تُساوى بالمحور الايراني وحربه الطائفية في المنطقة، بعد اقترانها المُدمّر بالإرهاب الجهادي والانتحاري لسنوات طويلة.

وهنا المشكلة اليوم مع الموقف الرسمي اللبناني، وهو الأقرب إلى طهران بشعاراتها الفارهة من فلسطين. في الاجتماع غير العادي لوزراء خارجية جامعة الدول العربية في القاهرة، ادعى وزير الخارجية والمغتربين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بأننا ”في لبنان لا نتهرب من قدرنا في المواجهة والمقاومة حتى الشهادة“. تبع هذا الكلام تصريح آخر على وسائل التواصل الاجتماعي للنائب عن كتلة ”الإصلاح والتغيير“ نبيل نقولا جاء فيه أن ”الحل الوحيد لإنهاء العربدة الإسرائيلية إن كان فوق الأراضي اللبنانية أو السورية والآن ​القدس​ وخصوصاً الدعم الأميركي للصهيونية، هي ​الصواريخ​ ولا شيء آخر. اللغة المفهومة من العدو والصديق“.

كل هذه التصريحات النارية والغريبة في آن لمسؤولي التيار الوطني الحر في سبيل القضية الفلسطينية، تستدعي أسئلة لامتحان صدقيتها. أولاً، لماذا لا نبدأ من أولويات الفلسطينيين في لبنان، أي الحصول على حقوق مدنية أساسية للبشر من قبيل التملك والعمل؟ والتيار هنا عائق أساسي أمام تحصيل هذه الحقوق الانسانية التي لا تتعارض مع مبدأ رفض التوطين، بل تُحصّن الفلسطينيين، وقد توفّر لهم بعض المناعة ضد التنظيمات المتطرفة. وإلا فكيف تتهم السلطات اللبنانية الاحتلال الاسرائيلي بالممارسات العنصرية تجاه الفلسطينيين، وهي تميُز ضدهم في العمل في مجالات عديدة، ومن التملك؟

ثانياً، هل يريد التيار فتح الجبهة اللبنانية لتحرير القدس والقتال ”حتى الشهادة“؟ بالتأكيد لا، إذ لم يحتمل قادة التيار تظاهرة فلسطينية-لبنانية واحدة أمام السفارة الأميركية في عوكر.

ما حصل هو أن لبنان انضم رسمياً الى جوقة المطالبين بتحرير فلسطين ومواجهة الاحتلال بالنار والشهادة، على طريقة شعار ”الرد المناسب في الوقت المناسب“ المكرر مرات خلال عقود من الخطابات الفارغة عن فلسطين.

إذا أراد لبنان الرسمي فعلاً توفير دعم صادق للقضية الفلسطينية، فعليه أن يبدأ بنشل المخيمات الفلسطينية من حالة الفقر والتطرف، وأن يُحفاظ على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني من محاولات الهيمنة والتخريب الاقليميين.

 


مهند الحاج علي