أرض فلسطين تتحرك غضباً من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الاميركية اليها، واحتدمت المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين على نحو يُنذر بتصاعدها أكثر في الآتي من الايام، والعالم كله ما زال تحت تأثير الصدمة التي خلّفها هذا القرار بالتزامن مع تصاعد الرفض العربي له واتّهام بعض الدول للإدارة الاميركية بتهديد عملية التسوية في الشرق الاوسط والانتقال من موقع الراعي لها الى موقع الناسِف لها، خصوصاً انّ وضع القدس يمثّل إحدى الركائز الأساسية في مباحثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
بالتوازي مع التحركات الرافضة لهذا القرار، والتي تتصاعد في الاراضي الفلسطينية المحتلة وتتسارَع في أكثر من دولة عربية وإقليمية، كان لبنان في قلب هذا الحدث، وقد وقف بكل مستوياته السياسية والرسمية ضد هذا القرار، وعبّر عن رفض متجدّد له من خلال جلسة استثنائية لمجلس النواب، أكّد فيها تضامنه مع الشعب الفلسطيني ودعم «حَقه في مقاومته ونضاله المشروع للتخلّص من الاحتلال الاسرائيلي».

خطر التوطين

ولعلّ التوصية التي أصدرها المجلس النيابي، وأودعها الحكومة لتعميمها على كل المحافل الدولية، تؤشّر الى الخطر الكامن في القرار الاميركي حول القدس، على المدينة المقدسة وهويتها العربية الاسلامية والمسيحية، وبأنه يقود الى الحروب ويهدّد السلام الاقليمي والدولي، فإنّ الخطر الاكبر الذي يقرأ في طَيّات هذا القرار، لا يتهدّد القدس فحسب، بل يتهدّد لبنان بدرجة أساسية، من ان يكون ساحة انعكاس لمفاعيله، والتي يتصدرها موضوع توطين اللاجئين الفلسطينيين فيه، بما يعني ذلك من مخاطر على هذا البلد وتكوينه ووحدته والصيغة التي يقوم عليها.

وهو أمر حذّرت منه كل مستويات الدولة، والتقَت على اعتباره خطراً مصيريّاً يُلقي على كل اللبنانيين مسؤولية مواجهته بالطريقة التي تنأى بلبنان عن اي محاولة لنَسفه بعبوة التوطين.

وإذ ذكّرت مصادر رئاسية، عبر «الجمهورية»، بموقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من توطين الفلسطينيين في لبنان، وتأكيده الدائم والحازم على إحباط اي محاولة لفَرضه على هذا البلد من اي جهة أتت، قالت مصادر رئيس مجلس النواب نبيه بري لـ«الجمهورية»: «قرار ترامب حول القدس محاولة تمهيدية لتثبيت التوطين، وكما قاومنا الاحتلال الاسرائيلي، سنقاوم التوطين ونمنعه بكل ما أوتينا من قوة ووسائل».

قمة اسطنبول

الى ذلك، علمت «الجمهورية» من مصادر دبلوماسيّة أنّ «عون أبلغ الدوائر التركيّة قبوله المشاركة في القمّة الإسلاميّة التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يوم الأربعاء المقبل في اسطنبول، وسيترأس الوفد وسيباشر إتصالاته في عطلة نهاية الأسبوع لتشكيل وفد لبنان الى القمّة».

مجموعة الدعم

ولبنان، الذي يحاول أن يُلملم نفسه ويرفع عن واقعه ثقل الازمات المتتالية والمعقّدة، وآخرها أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري وما أحاط بها من التباسات وتوترات وما خَلّفته من ارتدادات وتداعيات في قلب المشهد الداخلي، تلقّى جرعة منشّطات من المشهد الباريسي الذي تجلّى بالأمس في اجتماع مجموعة الدعم الدولية الخاصة بلبنان، الّا انّ ذلك يبقى بلا أي معنى، اذا ما بقي البلد تحت رحمة أداء حكومي محكوم بالشوائب والثغرات، وبعقلية استئثارية لا تتوخّى سوى التسويات والمحاصصة والصفقات.

وقد جدّدت مجموعة الدعم الدولية للبنان، في بيان بعد اجتماعها في باريس برعاية الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وتمثّل فيها لبنان برئيس الحكومة، «التزامها باستقرار لبنان وأمنه وسيادته، ودعمها جهود السلطات اللبنانية لاستعادة الأداء الطبيعي للمؤسسات والتحضير لتنظيم الانتخابات في أيار 2018، تماشياً مع المعايير الدولية».

وذكّرت بضرورة حماية لبنان من الأزمات التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط، ودعت جميع الدول والمنظمات الإقليمية إلى العمل من أجل حفظ الاستقرار والأمن السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والماليين في لبنان، في ظلّ مراعاة سيادة لبنان وسلامة أراضيه على نحو تام.

وأبدَت ارتياحها لعودة الحريري إلى بيروت، «فهو يُمثّل شريكاً رئيساً لصَون وحدة لبنان واستقراره»، وأشادت بالقرار الذي اتخذه «بالاتفاق مع رئيس الجمهورية اللبنانية بشأن إتمام ولايته كرئيس للحكومة». وأعلنت انها ستولي اهتماماً خاصاً لتنفيذ جميع الأطراف اللبنانية قرار مجلس الوزراء النأي بالنفس «إنطلاقاً من روح التوافق والتسوية الوطنيين».

ودعَت جميع الأطراف اللبنانية «إلى تنفيذ سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الخارجية وعدم التدخّل فيها». وشدّدت على ضرورة تطبيق القرارات الدولية، وخصوصاً القرار 1550 و1701، وذكّرت بأنّ الجيش اللبناني هو القوة المسلّحة الشرعية الوحيدة في لبنان، وفق ما كَرّسه الدستور اللبناني واتفاق الطائف. ودعت جميع الأطراف اللبنانية إلى استئناف المناقشات بشأن خطة الدفاع الوطنية.

مساعدات

في هذا السياق، قالت مصادر مواكبة لاجتماع مجموعة دعم لبنان لـ«الجمهورية»: إنّ المشكلة الاساسية التي قد تواجه لبنان وتحول دون حصوله على حصّة وازنة من المساعدات الاقتصادية، هي عدم تلبيته لالتزاماته السابقة التي قدّمها في مؤتمرات الدعم من باريس 1 الى باريس 3.

وكانت الدول المانحة ربطت بعض الهبات والقروض بالتزامات إصلاحية تَعهّدَ لبنان القيام بها، ليتبيّن اليوم أنه لم يَفِ بأيّ من هذه الالتزامات. وبالتالي، سيكون صعباً توقّع الحصول على مساعدات كافية في أي مؤتمر مُقبل للمانحين، على رغم توافر الرغبة في دعم لبنان من قبل أكثر من بلد صديق.

وأشارت المصادر الى انّ المؤتمر المخصّص لدعم لبنان في ملف النازحين، سيكون فرصة لكي يُعيد لبنان تقديم أوراقه لجهة المشاريع التي يحتاجها لتعويض الخسائر والاضرار التي لحقت به جرّاء وجود هذا العدد الهائل من النازحين. ومن المتوقع ان يكون الحصول على مساعدات في هذا الملف أسهل بالنظر الى حساسية الموضوع، وحماسة الدول لضمان عدم تسرّب النازحين الى أراضيها.

إلتباس

الجدير ذكره انّ التباساً أحاط الترجمة العربية لبيان مؤتمر باريس، حيث لوحظ انّ السفارة الفرنسية في لبنان تَولّت توزيع 3 نسخ للبيان الختامي لمجموعة الدعم، باللغات الفرنسية والانكليزية والعربية. ولفت في النسختين الفرنسية والانكليزية ورود القرار 1559 الى جانب القرار 1701، فيما خَلت النسخة العربية من أي ذكر له، مُكتفية بالنص على القرار 1701.

الّا انّ السفارة الفرنسية عادت بعد فترة وجيزة الى توزيع نسخة ثانية عن البيان باللغة العربية، معدّلة عن الاولى بحيث أضيف فيها القرار 1559 الى جانب القرار 1701.

وقد أحدثَ هذا الامر استغراباً لدى اوساط سياسية، وتساءلت حول سرّ حذف القرار 1559 من النسخة العربية الاولى، واتهمت السلطة اللبنانية ووزارة الخارجية بـ«تزوير» النسخة العربية عبر حذف القرار 1559 من متن البيان الختامي، الأمر الذي دفع السفارة الفرنسية الى توزيع السنخة الثانية.

الحريري ـ تيلرسون

وسجّل على هامش اجتماع مجموعة الدعم، لقاء بين الحريري ووزير الخارجية الاميركية ريكس تيلرسون، الذي أكّد «انّ الحريري قال إنه يريد مواصلة عمله كرئيس لحكومة لبنان، ويريد أن يتحقق مبدأ النأي بالنفس»، مشيراً إلى أنّ «القوات الأمنية الشرعية هي المسؤولة عن حماية لبنان، ويجب تعزيز هذه القوات».

وفي موقف لافت للانتباه أدلى به بعد محادثاته مع نظيره الفرنسي جان-ايف لودريان في باريس، دعا وزير الخارجية الاميركية، السعودية «لأن تكون أكثر تَروّياً وتَدبّراً في ما يتعلق بالسياسة في اليمن وقطر ولبنان، وأن تفكر في عواقب أفعالها». وقال إنّ بلاده تشجّع السعودية على «اعتماد التأني في تصرفاتها»، ودعا إلى «إنهاء الحصار على اليمن بشكل تام».

وعلمت «الجمهورية» انّ الحريري أجرى اتصالاً مطوّلاً برئيس الجمهورية بعد ظهر أمس، أطلعه فيه على نتائج مؤتمر باريس واللقاءات التي عقدها على هامشه، ولا سيما اللقاء مع وزير الخارجية الاميركية، حيث عَبّر فيه عن ارتياحه البالغ للأجواء التي سادَتها والنتائج التي خرجت فيها مجموعة الدعم.

مجلس وزراء الخميس

على صعيد سياسي آخر، تستعدّ الحكومة الى الانعقاد الاسبوع المقبل، وفق ما أكد لـ«الجمهورية» أكثر من وزير، حيث رَجّح بعضهم انعقاد مجلس الوزراء الخميس المقبل، على أن يدعو الى الجلسة رئيس الحكومة مطلع الاسبوع المقبل. وتوقّع هؤلاء ان يكون ملف النفط احد أبرز بنود جدول الاعمال، الذي قد يكون فضفاضاً يزيد على 100 بند، خصوصا ًبعد تراكم العديد من الملفات والبنود خلال الشهر الفائت بفِعل أزمة الاستقالة.

السجال... تابع

من جهة ثانية، وفي وقت تستمر الازمة صامتة بين تيار «المستقبل» و«القوات اللبنانية»، مع التزام الطرفين وقف إطلاق النار السياسي بينهما بعد فترة من الاحتدام والاتهامات المتبادلة على خلفيّة موقف «القوات» من استقالة الحريري، تبدو العلاقة بين «القوات» و«التيار الوطني الحر» في حلبة اشتباك سياسي مفتوح.

وأبدَت مصادر «القوات» موافقتها على قول «التيار الوطني الحر» بـ«انّ التفاهم مع «القوات» كان على أساس أن تكون شريكة وداعمة للعهد طوالَ مدّته»، وقالت المصادر لـ«الجمهورية»: «بالفعل لم يتحقق أي شيء من ذلك، لأنّ «القوات» لم تكن شريكة للعهد منذ انطلاقته وحتى اللحظة، فيما أقصى تمنياتها ان تكون شريكة وداعمة للعهد طوال مدّته».

وأضافت المصادر: «أمّا في ما يتعلق بالانقلاب على الحكومة ورئيسها، فهذه القراءة هي قراءة «التيار الوطني الحر» وليست الحقيقة. فالحقيقة انّ «القوات» كانت تريد العودة إلى جوهر التسوية الحكومية والالتزام الفعلي بها، خلافاً لبعض الأطراف داخل الحكومة التي ضَربت عرض الحائط بالتسوية في أكثر من محطة ومناسبة، وما حصل في نهاية المطاف أثبَتَ صحة ما ذهبت إليه «القوات» منذ اللحظة الأولى، حيث أكدت الحكومة في اجتماعها في 12 الجاري التزامها وجميع مكوناتها بكل مضامين البيان الوزاري وخصوصاً في ما يتعلق بالنأي بالنفس الفعلي لا الشكلي، كما انّ الرئيس الحريري عاد وأكّد في أكثر من مناسبة أنه عاد عن استقالته انطلاقاً من تعهّد كل الأطراف بالالتزام الفعلي بسياسة النأي بالنفس، ورَدّه على نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، وتأكيده انه سيسهر شخصياً على تطبيق سياسة النأي بالنفس، يقدّم أكبر دليل على ذلك. فأين هي محاولة الانقلاب؟

ولفتت المصادر الانتباه الى انّ «القوات»، وخلال كل مرحلة الأزمة لم تدع يوماً الرئيس عون الى قبول استقالة الرئيس الحريري، بل على العكس تماماً حيث أنّ رئيس حزب «القوات» سمير جعجع أكد في أكثر من موقف من دار الافتاء والقصر الجمهوري، على أثر اللقاءات التشاورية التي أجراها الرئيس وفي مقابلاته الصحافية والاعلامية، انّ القرار الذي اتخذه عون بعدم قبول الاستقالة والتريّث هو قرار حكيم، وإذا أردتم ان يعود عن استقالته فليُصدر «حزب الله» بياناً يؤكد فيه التزامه بسياسة النأي بالنفس، فيعود في غضون ساعات.

وبالتالي، نعتبر انّ كل ما يقوله «التيار» عن انقلاب «القوات» على العهد والحكومة هو من باب التجنّي والافتراء ليس إلّا، إذ انّ كل مواقف «القوات» تذهب عكس ذلك تماماً. يبقى ان الأمور تُعرف بخواتيمها، إذ ما إن طرحت التسوية الجديدة حتى تلقّفتها «القوات» والتزمت بها إلى أبعد حد، لأنّ هذا ما كانت تريده أصلاً.