صعب العثور على المنطق السياسي الذي دفع الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى الاقدام على خطوة الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة إسرائيل والشروع في نقل السفارة الاميركية اليها. الرجل مختل عقلياً، من وجهة نظر السياسة الخارجية . وهو لا يخدم المصالح الاميركية ولا حتى الاسرائيلية، بل هو يغامر بهما ، من دون مبرر واضح . وفي ذلك مكسب ممكن لجميع أعداء أميركا وخصومها، وم لجميع حلفائها وأصدقائها.
غرابة الخطوة لا تكمن فقط في فرادتها او في عزلتها الدولية التامة. الاجماع المناهض لها مؤشر مهم، لا سيما في الظرف الراهن، والاحتجاج الواسع عليها ، دليل خير لفلسطين والفلسطينيين الذين بدوا في السنوات القليلة الماضية وكأنهم خرجوا مع قضيتهم المركزية من جدول الاعمال العربي والعالمي. صحيح أن القدس تستخدم اليوم من قبل البعض للمزايدة او للمخالفة. لكن لا بأس. العودة الى صدارة الحدث في مختلف أنحاء العالم، إنجاز سياسي مطلوب، يجزم في أن القضية لم تمت ولن تموت.
وكذا الامر بالنسبة الى ذلك الخوف المفتعل من تأثير تلك الخطوة الخرقاء على عملية السلام، غير الموجودة أصلا الا في الاحلام والاوهام، او على الوساطة الاميركية المزعومة التي لم تكن يوما، ومنذ مؤتمر مدريد العام 1991، إلا طعنة في ظهر تلك العملية وفي صدر الفلسطينيين والعرب. وإذا ما أسفر قرار ترامب بالفعل عن تقويض تلك الوساطة، فإن فلسطين ستكون هي الرابحة بلا أدنى شك، لأن ما تسرب حتى الآن من أفكاره وافكار صهره جاريد كوشنر، عن ما يسمى ب"صفقة القرن"، ينحدر بالقضية الفلسطينية من صراع وطني الى نزاع عقاري، يرغب الرئيس الاميركي بتسويته في المحاكم والدوائر المدنية.
لكن الخطر الأكبر للقرار، هو أنه كما يبدو مبني على فرضية أنه ليس بيد الفلسطينيين حيلة لإسقاطه. وهي فرضية صحيحة الى حد ما، طالما أن ثلثهم خاضع للأسر في الضفة الغربية المحتلة، وثلثهم يقيم في معتقل غزة المفتوح، وثلثهم الباقي في الشتات من دون عَلَمٍ أو عملٍ، شبيه بذاك الذي أحيا الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينات القرن الماضي.
ويكبر هذا الخطر إستناداً الى حقيقة لا جدال فيها أن القرار يعكس قدراً كبيراً من التواطوء مع الحلفاء العرب الذين رفعوا ترامب شخصيا الى رتبة سياسية لم يسبق أن نالها أي رئيس أميركي سابق، لا سيما جورج بوش الاب والابن اللذين أرسلا نصف مليون جندي أميركي للدفاع عن دول الخليج العربي في تسعينات القرن الماضي وفي مطلع القرن الحالي، ولم يجنيا منه ما جناه الرئيس الحالي حتى الآن الذي قدم للخليجيين الكثير من الوعود الفارغة لمواجهة التهديد الايراني..وفاقم هذا التهديد أكثر من أي وقت مضى، بدلا من أن يخفضه!
هنا سر القرار الاميركي، وربما مصدره الرئيسي، بل وحتى سبب تكريسه وتحويله الى حقيقة سياسية ثابتة، تشطب القدس من جدول أعمال التفاوض، وتؤسس لتحول تاريخي في جوهر الصراع وفي عنوانه الرئيسي الاهم والاعمق، يتسابق فيه الحلفاء العرب لترامب على الترويج للتطبيع والتحالف مع العدو الاسرائيلي بحجة الواقعية السياسية المكتشفة حديثا في بعض العواصم الخليجية، التي توجه هذه الايام إتهامات وإساءات للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، لا تنم عن جهل فقط، بل هي تنذر بمخاطر شديدة على المجتمعات الخليجية نفسها..
فهذه المجتمعات لم ولن تسلم لإيران، كما هو شائع حاليا، قيادة المرحلة الفلسطينية الراهنة، لأن ما فعله الايرانيون في سوريا ثم اليمن لا يغتفر ابدا. الأرجح ان الخليجيين ومعهم غالبية العرب، سيستأنفون مجدداً، مسيرة البحث عن بدائل لحماية المقدسات والاوطان..ولن يجدوا ضالتهم سوى في المساجد والعمائم، التي يمكن تشكل ملاذهم الاخير لمواجهة التهديدين الاسرائيلي والايراني على حد سواء.
في خطوة ترامب من الحماقة ما يستدعي الكثير من الخوف على المصير الفلسطيني والمستقبل العربي، وهو خوف مبعثه الوهن الداخلي، أكثر بكثير من العداء الاميركي والاسرائيلي.