من باب التبسيط والإستسهال غير المبررين، وصف قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعتراف بالقدس "عاصمة لدولة إسرائيل"، بأنه قرار أرعن يرتبط بشخصية الرئيس المثيرة للجدل، ووعوده الإنتخابية وما إلى ذلك.
القرار يستمد مصدره من سياسة أميركية ثابتة في هذا الاتجاه، عمرها يزيد عن عشرين عاما، وتحديدا منذ اتخاذ قرار مُلزِم في مجلسي الكونغرس الأميركي (النواب والشيوخ) عام 1995 بنقل مقر السفارة الأميركية في إسرائيل من تل ابيب إلى القدس. وعلى مدى 22 عاما تأجل تنفيذ القرار بوتيرة متتالية (كل ستة أشهر)، تحسبا لردود الفعل العربية ومراعاة لمصالح أميركا في المنطقة والعالم الإسلامي، وأيضا لحساسية عدد غير قليل من دول الغرب تجاه هذا الموضوع.
في الواقع كان تأجيل تنفيذ القرار مكلفا لكل من الرؤساء الثلاثة الذين سبقوا ترامب (كلينتون وبوش الإبن وأوباما). فقد كان على كل رئيس يؤجل تنفيذ القرار أن يناور مع النافذين في الكونغرس، ويقدم لهم المقابل.
اليوم تهيأ الظرف المناسب، ولنقل اللحظة، التي لم تتأخر الإدارة الأميركية وترامب من إغتنامها. هي لحظة إختمار أوضاع تراكمت على مدى العشرين عاما المنصرمة وما قبلها، لتعمقت خلالها الخلافات العربية-العربية، وهيأت بين ما هيأت الظرف لهيمنة إيرانية ساحقة.
إقرأ أيضا : القدس عاصمة فلسطين الأبدية
الذي شهده العالم العربي خلال هذه المدة، ساهم بتمهيد الطريق وجعل الوقت مناسبًا لكي يتحول مسار القرار من التأجيل الروتيني إلى التنفيذ. ولعله، في مثل هذه الظروف، فإنه حتى لو لم يكن رئيس الولايات المتحدة هو ترامب لما تردد هذا الرئيس في تفعيل قرار الكونغرس بِشأن القدس
إستعراض سريع ومختصر لحال المنطقة خلال هذه العشرين سنة يبين لنا كم تشتت الإرادات العربية وكيف تعمق الإنقسام بين أنظمتها، وكم كان العجز فاضحا عن إبتكار مشروع جدي جامع قابل للتنفيذ. معظم المحاولات والمشاريع المشتركة، إمّا أنها لم تمتلك ما يجعلها تتحقق، أو أنها بقيت حبرا على ورق. وهنا يدور الكلام بالعموم ليشمل مبادرة السلام العربية ومشاريع الأسواق والعملات والتجارة وغير ذلك.
الأنظمة العربية، التي تحمل لواء الممانعة كان لها "الفضل" الكبير. ذلك أنها وهي تتباهى دوما بالدعم اللفظي للقضية الفلسطينية، لم تفعل إلا ما يساعد في تهميش هذه القضية، التي نقلتها من الحضن العربي إلى الإحتواء الإيراني.
الأخطر أن الشعوب العربية في غالبيتها تحولت من الدعم المخلص للقضية الفلسطينية والإستعداد لتقديم ما يلزم في سبيل ذلك، إلى نوع من اللامبالاة تجاهها، فكثير من هذه الشعوب تشعر بأنها تعيش في بلدانها الأم وقد احتلتها أنظمة غاشمة، وبعضها فقد إيمانه بالقضية، وهو يرى حقيقة المتاجرين بها أو تجرفه إهتمامات أخرى. بل أن هناك أصحاب رأي ومواطنون عاديون لا يجدون ضيرا في الدعوة العلنية إلى التصالح مع إسرائيل. يكتبون ذلك "أسود على أبيض". وهذا ما كان ليحصل لو لم تبلغ أنظمة الممانعة ما بلغته في تعطيل الحياة السياسية لشعوبها وقمعها، وهي لا تنفك تتلطى بشعاراتها الممانعة.
وسط هذه الهشاشة في الوضع العربي الرسمي والشعبي، وجدت إيران، جمهورية الولي الفقيه، السبيل ليكون لها الحضور الطاغي، ويكون لمشروع هيمنتها الأولوية. هكذا غنمت عراق ما بعد صدام حسين برضى أميركي، وحصلت على سوريا وهيمنت، من خلال حزب الله، على القرار السياسي في لبنان، واقتنصت اليمن بتحشيد الحوثيين وتواطؤ الرئيس علي عبد الله صالح، الذي لم يمهله حلفاؤه المستجدون إلا أياما قليلة ليغتالوه عقابا على خروجه عن طاعتهم.
إيران التي لا تترك مناسبة إلا وتحتفل بفلسطين، كانت في الواقع تمد يدها إلى العمق في إضعاف قضيتها، من خلال أدوار لعبتها في تسعير الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني بدعم حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما. أما حين يقوم الشعب ضد حكامه الظلمة، فهي تحضر بقوة لدعم هؤلاء الحكام:
في سوريا لم يكن بمستطاع بشار الأسد أن "يصمد" منذ 2011 حتى اليوم لولا تدخل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وباقي الميليشيات. العراق يغرق في أتون الفساد المتحصن بالقوى المذهبية. وفي اليمن خرَّبت سيطرة الحوثيين مسار التغيير، الذي أطلقته حركة الشارع عام 2011 على هدير صرخة "ارحل" التي جهر بها المتظاهرون في وجه علي عبد الله صالح. وفي هذه الدول الثلاث، لا يزال الإستقرار أملا غير قريب التحقق، والسيادة مسألة مرهونة بحسابات الخارج الذي دخل في عمق أزماتها.
"الحال من بعضه" حين يدور الحديث عن تركيا، التي وخلال سنوات قليلة من حكم حزب أردوغان، تحولت من "صفر مشاكل" إلى غابة مشاكل، حجمت كثيرا من دورها الإقليمي، بحيث لم تجد لها بدا من أن يكون هذا الدور تحت كنف روسيا بوتين وإيران ولاية الفقيه.
وحدها بقيت إسرائيل الطرف المرتاح، المحمي بقوته وحريته بالعدوان، متوافقا مع روسيا بوتين، التي هي بالمناسبة المنقذ المباشر لنظام بشار الأسد حتى اليوم.