أقام منتدى الثلاثاء الثقافي ندوته الأسبوعية تحت عنوان "العامية والعودة إلى ثقافة القبيلة .. النشأة والتطور" باستضافة الباحث والشاعر الأستاذ حمد حميد الرشيدي وذلك مساء الثلاثاء 17 ربيع الأول 1439هـ الموافق 5 ديسمبر 2017م بحضور ضم لفيفاً من الكتاب والمثقفين. وصاحب الندوة تكريم البطل العالمي محمد السويق بمناسبة تتويجه بطلاً للعبة التايكواندو وحصوله على المركز الأول في التصفيات التي جرت هذا العام في شرم الشيخ بمصر، كما تضمنت الفعاليات المصاحبة مشاركة الأستاذ عاطف الغانم بعرض مرئي لمجموعة من اللقطات الفوتوغرافية حول البيئة المحلية.
افتتح مدير الندوة الأستاذ زكي البحارنة الأمسية التي تزامنت مع ذكرى المولد النبوي الشريف بالقول إن كثيراً من الصيغ الثقافية التي تملأ مجتمعاتنا والتي من بينها "ثقافة القبيلة بواقعها المعاصر" جديرة بفتحها على مائدة الحوار الموضوعي المنضبط بالاحترام المتبادل كسبيل في إكساب الواقع تراكمات بناءة تشكل رافعة لتجديد الأفكار والرؤى التي تساهم في الأخذ بالقيم الإنسانية الجامعة. وأضاف أن هذه المناقشات لا تحسم التباين في الأفكار بطبيعة الحال، ولكن تجعلها على محك التصويب، مما يدفع بأصحابها لترشيدها ودفع نقاط الضعف عنها، وبهذا تصنع الأفكار التي ترفع قيمة المجتمع وتوجه سلوكياته.
كما عرف بالباحث والشاعر والروائي حمد الرشيدي من مواليد 1966م في ضواحي مدينة خيبر التاريخية، والحاصل على بكالوريوس العلوم في الجيولوجيا، والعميد بالقوات المسلحة، بدأ مشواره الأدبي في القسم الثقافي لجريدة المسائية عام 1414هـ، كما عمل كمعد ومقدم برامج ثقافية في التلفاز والاذاعة السعودية من أبرزها برنامج (أوراق شاعر) الاذاعي، وبرنامج (كتب مهداة) بالثقافية الفضائية. له عدة مؤلفات منها: ديوان "للجراح ريش وللرياح وكر" ورواية "شوال الرياض" عن حياة الملك عبدالعزيز، وكتاب "الجيوإنسانيات .. قراءة في علاقة الإنسان بالأرض من منظور شعري" ودراسة انثروبولوجية وتاريخية عن مدينة خيبر وأهميتها الاقتصادية والتاريخية والدينية وكتاب "العودة إلى ثقافة القبيلة...الجاهلية الجديدة" صادر عام 2015م وهو موضوع الندوة.
بعد ذلك افتتح الباحث حمد الرشيدي حديثه بتعريف مفردة "العامية" التي ترد في الندوة بأنها عامية اللسان من منظور لغوي، وعامية الفكر والثقافة المقابلة لبساطة التعليم، أما المقصود بجملة "العودة إلى ثقافة القبيلة" فإنها مجموعة التوجهات والأفكار الجديدة التي يتبناها بعض إعلاميي ومثقفي منطقة الخليج خلال ثلاثة العقود المتأخرة. وأشار إلى أن ذلك يهدف إلى بعث الحياة القبلية العربية واستعادة بعض ما كانت عليه سابقا من عادات وأعراف على أساس من التمايز الفوقي على بقية القبائل أو الأقاليم، متخذة منحى من التدوين والتنظير الذي أفضى إلى بعض النتائج السلبية في منطقة الخليج. وأوضح أن من نتائجها نشوء "الفكر القبلي" والعودة إلى "ثقافة القبيلة" والتي تتمثل بسلوكيات اجتماعية عفى عليها الزمن، وظهور العامية اللغوية على أساس من التعصب القبلي والنعرة الإقليمية والنزعة المناطقية، لا بأنها قبال الفصحى كما كانت.
وأضاف الباحث أن مثل هذه التوجهات القبلية تستفيد من وسائل الاعلام الحديث في تعميقها وشرعنتها من خلال الاهتمام بتاريخ القبائل ودراسة لهجاتها وأشعارها ومناطق انتشارها لتغذية النعرات المناطقية بين الشعوب العربية، مستدركا بأن الاعتزاز بالموروث والفولكلور أمر مقبول وحق مكتسب للمنتمين إليه، وأن المشكلة لا تكمن في مادة التراث الشعبي وإنما تكمن في شكل الممارسة التي تقوم على النزعة العنصرية والمتطرفة. وأوضح الرشيدي أن بحثه في ظاهرة "العودة إلى ثقافة القبيلة" تقتصر على إقليم نجد مؤكدا في الوقت ذاته أنها ظاهرة تشمل منطقة الخليج "مركز الثقل القبلي" عربيا وإسلامياً، مشيراً بأنها لم تعط حقها من الدراسة والنقاش حتى الآن رغم غرابتها وانحرافها عن جادة الصواب.
وحول فهم جذور هذه الظاهرة، تحدث الأستاذ الرشيدي عن البعد التاريخي للقبلية النجدية قائلاً أن المختصين في دراسة التاريخ القديم لشبه الجزيرة العربية توسعوا في تقسيم تاريخ إقليم نجد إلى ثلاث حقب زمنية بناءً على عوامل متعددة أوجدت انعكاسات متباينة في تكوين هذه المجتمعات وتطورها وتتحكم في تكوينهم الشخصي والنفسي والسلوكي، وأطلقوا على كل حقبة مسميات مختلفة ذات مدلول واحد تقريباً. فحقبة ما قبل الدعوة السلفية (1157هـ) سميت بالعصور المظلمة في دلالة على ربط المصطلح بالجانب الديني أو العلمي، وسميت بعصور الانحطاط من منظور حضاري، وبعض كتاب العصر الحديث أطلقوا مسمى "الجاهلية" بشكل مجازي على فترات زمنية غير محددة من تاريخ نجد حتى قبيل تأسيس المملكة العربية السعودية، وهي تسمية ربما تكون ذات مدلولات دينية وسياسية وثقافية واجتماعية.
المرحلة الثانية التي عبر عنها المحاضر ب "القلقة" لما كانت تنطوي عليه من أحداث وتحولات والتي من أبرزها بروز الدعوة السلفية المعروفة والتي جاءت ردة فعل طبيعية لما كان عليه واقع مجتمعات شبه الجزيرة العربية والمجتمع النجدي تحديداً من جهل وتخلف وتفشي للفساد الديني والأخلاقي بين الناس. كما واكب بروز الدعوة السلفية نشوء صراع شبه مستمر بين إمارات شبه الجزيرة العربية على مراكز السلطة كان له أثر عميق في تشتت الشمل العربي في هذه المنطقة. وكان أبرز حدث سياسي طرأ على أوضاع إقليم نجد في ذلك الوقت هو التدخل التركي للسيطرة على شبه الجزيرة العربية خصوصاً بعد تكاثر أتباع الدعوة السلفية وانتشارها، مشيراً إلى أن تلك الأحداث أكبر من طاقة استيعاب المجتمع النجدي كمجتمع بدائي زجت به في المعترك السياسي الدولي، حيث أدت إلى اختلال واضح في بنيتيه الداخلية والخارجية على المستويين الفردي والجماعي.
كما حدد الباحث الرشيدي الحقبة الثالثة لإقليم نجد بأواخر أيام الدولة السعودية الأولى وسقوط الدرعية (1233هـ) لفترة تمتد ثمانون عامأ إلى ما قبل تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز، وفي هذه المرحلة بدأت تأخذ هذه المنطقة طابعاً حضرياً من خلال انتشار تعليم الكتاتيب التي ساهمت في التثقيف الديني ومبادئ القراءة والكتابة. واضاف أن المشكلة الرئيسة في هذه المرحلة تتمثل في عدم استقرار الأوضاع السياسية واستمرار الصراعات الداخلية القبلية والنزاعات الإقليمية، بالإضافة إلى تطلع الدول الاستعمارية بريطانيا، فرنسا، والبرتغال لبسط نفوذها بالمنطقة خصوصاً مع بدايات انهيار الإمبراطورية العثمانية.
من جهة أخرى قدم المحاضر توصيفاً للقبلية في نجد التي تتسم بطبيعة الترحال، وفرض السيطرة على القبائل الأخرى، كما أن القوة والهيمنة مقدمة على أي اعتبارات أخرى، كما أنها تنشد للنزعة الإقليمية والعرقية، وأن ولاءها يمنح للأقوى واصفاً هذه الحالة بمبدأ "الخوف والرجاء" في أساليب حياة القبائل وتعاملها مع محيطها، إلى جانب صفات الكرم والشجاعة والايثار والأمانة.
وفي آخر ورقته تعرض الباحث الرشيدي لأبرز مظاهر العودة إلى ثقافة القبيلة في الوقت الراهن كإقامة المهرجانات القبلية لعروض الإبل، والمسابقات الضخمة ذات المبالغ المالية الضخمة بهدف رفع اسم القبيلة عالياً، وكذلك ما تحتويه برامج التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية المشحونة بالعصبية القبلية، وتفشي ظاهرة فحص الحمض النووي. كما قدم رؤيته في بعض المعالجات للحد من هذه الظاهرة كتعزيز الرجوع إلى القيم الإسلامية والإنسانية العليا، وإبراز السيرة النبوية والصحابة في الأخذ بمبدأ التقوى في كل صغيرة وكبيرة، إضافة إلى ترجيح المصلحة العامة للدين والوطن والأمة، والعمل على التثقيف ومحاسبة التجاوزات العنصرية وتغليب اللغة العربية على اللهجات العامية، إضافة إلى تعزيز دور الأسرة في كل تلك المعالجات.
بدأت مداخلات الحضور بتعرض الأستاذ علي الحرز إلى أن الخلل في هذه الظاهرة يكمن في عدم تقديم معالجات قائمة على دراسات أنثروبولوجية معمقة، كما اختلف مع المحاضر في تحميل المستشرقين كامل المسئولية في تعزيز العصبية القبلية. الكاتب إبراهيم الزاكي ناقش المحاضر بأن اللهجات المحلية لا ينبغي اعتبارها معضلة قبلية لأنها أمر تاريخي طبيعي، مشيدا بالتوجه النقدي للباحث الرشيدي لما له من فوائد على صعيد التصحيح من الداخل، وأضاف أن المظاهر التي تطرق لها المحاضر لدى القبائل اليوم قد يكون أحد أسبابها هو حالة الثراء المادي، منتقداً حالة عدم استثمار الثراء في تطوير البنية الثقافية والتعليمية واقتصارها على تطوير البنى الفوقية المادية.
من جهته علق الأستاذ عاطف الغانم بضرورة معالجة الشعور العام بأن تجاوز العرف القبلي يؤدي إلى الضعف الاجتماعي، كما أكد الأستاذ علي سويد على أهمية تعزيز التداخل الاجتماعي بين الأطياف الاجتماعية. وفي نهاية المداخلات عقب الأستاذ جعفر الشايب بأن العالم العربي يعاني الصراع بين تذويب الهوية الخاصة والتمسك بها بدون أي اعتبار داعياً إلى التفكير في احترام الخصوصيات القبلية التي قد تنطوي على بعض الإيجابيات في إطار يستوعب الحالة ضمن قوانين وأطر ثقافية واجتماعية وقانونية، شاكراً المحاضر على مشاركته وطروحاته القيمة.
منتدى الثلاثاء الثقافي