أسوأ ما قيل في إغتيال الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أنه من علامات الربيع العربي، وأصدائه المتأخرة . ففي ذلك تضليل وتمويه لجريمة قتل موصوفة ، والتمثيل بالجثة، والتباهي بعرضها مرارا وتكرارا على الشاشات، في واحد من أبشع مظاهر الوحشية العربية والاسلامية، وأحط المعايير الانسانية والا خلاقية والمهنية للاعلام العربي.
فالراحل الذي راوغ وقاوم وقاتل الربيع العربي لم يسقط إثر تظاهرة، أو محكمة، او حتى مواجهة. والاهم من ذلك أنه لم يسقط على يد شباب اليمن وشاباته الذين خرجوا ضده بمئات الالاف في العامين 2011 و2012 ، وبشكل سلمي عفوي أرقى من سلوك الجيل الشاب التونسي او المصري او الليبي او السوري، الذي أطاح بانظمته أو ما زال يحاول.
الربط الفوري الذي جرى بين صورة صالح قتيلا مشوهاً ، وبين صور نظيره الليبي لم يكن مقنعاً، وكان يدل عن سذاجة او حتى سطحية سياسية، تقفز على الفوارق الهائلة بين الوقائع والظروف اليمنية والليبية ، والاخطر من ذلك أنها لا تقيم أدنى إعتبار للحياة البشرية. فالقتيل في الحالتين مجرد راقص على "رؤوس الافاعي والعقارب "التي يتكون منها شعبه، فقد مهارته فجأة في أداء رقصته الاخيرة أمام الجمهور. فجرى الاقتصاص منه بالطريقة التي يستحقها، وسط هتاف وتصفيق حاد، لم يستثن سوى قلة هالها المشهد المرعب، الذي أضاف الى الذاكرة العربية عطلا لا يصلح.
الإستعراض كان أكبر وأهم من الجريمة نفسها. والتسليم شبه المطلق بأنها من طبائع اليمن وشعبه وأساليبه في التغيير ، ألحق أذى لا يعوض، لا باليمنيين وحدهم، بل بالعرب أجمعين، وبالمسلمين عامة..حتى ولو بدا أن إغتيال صالح هو في جانب منه من مخلفات الحروب الاهلية اليمنية التي لم تتوقف يوما، ولن تتوقف..والتي كانت السعودية في خلفيتها الدائمة ، مثلما هي اليوم في واجهتها المتقدمة، بعدما خسرت واحداً من أهم حلفائها اليمنيين ، والذي خاضت الى جانبه جميع معاركها اليمنية، على مدى العقود الاربعة الماضية.
الثأر الشخصي حاضر في تلك الجريمة المروعة ، والخلاف السياسي حاسم في تنفيذها على هذا النحو الاستعراضي البشع. لكنه ليس شأنا داخليا يمنياً، او بالاحرى لم يعد كذلك. ثمة في السياسة ما هو أبعد من تصفية حوثية للمسؤول عن قتل أحد زعماء الجماعة في الماضي.. وما هو أخطر من تفكك حلف لم يكن مقدساً بين الحوثيين وبين أتباع الرئيس المقتول وأنصاره.
من البديهيات،أن جماعة الحوثي لم تكن لتجروء على الاقدام على مثل هذه الخطوة الخطيرة من دون ضوء أخضر من طهران:تصفية رئيس عربي مهما كان مثيراً للشك أو الجدل، ليست مجرد ردة فعل إنفعالية، على إنقلاب في المواقف والتحالفات. كان هناك أكثر من بديل للقتل، ولمثل هذا الانقلاب الحوثي المضاد على شراكة أحرجت السعودية وأربكت الخليج العربي واقلقت العالم العربي كله، بل وضعت العالم بأسره في حالة إستنفار دائم.
ومن البديهيات أيضاً، ثمة بلد عربي يخرج نهائياً من المنظومة العربية ويقع في قبضة إيران كليا، متحولا الى مستعمرة إيرانية بكل ما للكلمة من معنى.. وبما يتخطى التحول الذي طرأ على العراق وسوريا ولبنان في السنوات القليلة الماضية، وجعل هذه البلدان خاضعة للنفوذ الايراني بدرجات متفاوتة من الهيمنة. الجماعة الحوثية سبقت بقية حلفاء طهران العرب في نبذ العروبة وفي إزدرائها وفي الحط من أتباعها، وفي الاندراج شبه التام بالوطنية الايرانية (الفارسية) التي توسع حضورها العربي أكثر من أي وقت مضى في التاريخ.
ومن البديهيات ايضا، أن إيران كان يمكن ان تمنع هذا الانقلاب الحوثي، وتلك المخاطرة الحوثية باعلان السيطرة التامة على بلد عربي حساس. لكنها إختارت كما يبدو المضي قدما في المواجهة مع السعودية ومع غالبية العرب حتى النهاية، إنطلاقاً من قاعدتها اليمنية التي توازي بأهميتها قواعدها المبعثر ة في العراق وسوريا ولبنان، لكنها تفوقها من حيث الادارة المباشرة للشأن الداخلي اليمني التي أصبحت من الان فصاعدا في عهدة طهران.
ثمة توتر إيراني لم يسبق له مثيل. لعل دافعه الاحساس بان الفرصة قد حانت للانتقام من العرب على جميع غزواتهم العسكرية والدينية والسياسية لبلاد فارس. لكن السؤال هو : الى أي مدى تريد أن تصل إيران في توسعها العربي؟ وكيف تخطط للمحافظة على نفوذها المبني على أقليات أشد توتراً ، لكنها لا يمكن ان تصمد طويلا عندما ينتهي إضطراب الاغلبية وتشرذمها.
إيران تحكم اليمن.. هي تنضم الى إمبراطوريات كثيرة هزمت في ذلك البلد التعيس وغادرته بسعادة.