عاد الرئيس سعد الحريري عن استقالته ولم يعد «حزب الله» بعد من ساحاته، أكان في سوريا أم العراق أم اليمن. والبيان الذي صدر أمس بعد جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية وتلاه الحريري شخصياً، جاء بمثابة غطاء لهذه العودة. وقالت مصادر سياسية لـ»الجمهورية»: «طبيعي أن يَحظى البيان بتأييد غالبية القوى السياسية ما دامت ممثّلة في الحكومة أصلاً، في حين أنّ الرأي العام اللبناني، وإن كان يتمسّك بالاستقرار ويفضّل عدم دخول البلاد في المجهول والمغامرات، فإنه لم يأخذ هذا البيان على محمل الجد، لأنه لم يأتِ بجديد على صعيد النأي بالنفس سواء لجهة تحديد ساحات التدخّل أو لجهة وَضعِ الآلية لهذا النأي، فجاء إنشائياً أدبياً موسّعاً بنيّةِ إنقاذِ ماءِ وجهِ الحريري تجاه قاعدته من جهة وتجاه دولِ الخليج من جهة ثانية، فيما لمسَ الصحافيون الموجودون في الكويت لتغطية أعمال القمّة الخليجية عدمَ ارتياحٍ خليجي إلى هذا البيان واعتباره «وعوداً بوعود».
علمَت «الجمهورية» أنّ سجالات سياسية ولغوية واسعة حصَلت قبل صدور بيان مجلس الوزراء بعد جلسته الاستثنائية التي انعقدت أمس في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وكادت هذه السجالات أن تتسبّب بتأجيل الجلسة والبيان معاً، لو لم يكن لبنان الدولة امام استحقاق مؤتمر مجموعة الدعم الدولية الذي سينعقد بعد غدٍ الجمعة في باريس بدعوة من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وسيمثّل الحريري لبنان فيه ويلتقي مسؤولي المجموعة الدولية الكبار وبينهم وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون. وعُلم انّ احداث اليمن سرّعَت في البيان لتخوّفِ المسؤولين من صدور مواقف اخرى تُلقي بتداعياتها على لبنان في الايام المقبلة.

وتوقّفَت مراجع سياسية عند تعبير «التزام المكوّنات السياسية في الحكومة بالنأي بالنفس»، وقالت: «كأنه يوجد في الحكومة غير مكوّنات سياسية، ما يعني انّ هذه العبارة استُخدِمت لاستثناء مقاومة «حزب الله»، وهو حزب سياسي من جهة، وعسكري من جهة اخرى».

وكان الحريري قد اعلنَ انّ مجلس الوزراء أكّد التزام البيان الوزاري قولاً وفعلاً، وأنّ الحكومة تلتزم بما جاء في خطاب القسم لرئيس الجمهورية وبميثاق جامعة الدول العربية واحترام القانون الدولي حفاظاً على الوطن. وقال: «سنواصل تأكيد الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، وتؤكّد الحكومة التزام القرار 1701 والدعم لقوى الامم المتحدة العاملة في لبنان». وأعلن «التزام الحكومة اللبنانية بكلّ مكوّناتها السياسية النأيَ بنفسها عن أيّ نزاعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية». وأعلنَ عودته عن الاستقالة.

المعارضة

وقالت مصادر سياسية معارضة لـ«الجمهورية»: «إذا كان «حزب الله» وحلفاؤه قد استنَدوا إلى ما جاء في بيان استقالة الحريري من الرياض للقول إنّ مضمون الاستقالة سعوديّ وإنّ الرئيس الحريري «محتجَز» في المملكة، فإنّ بيان العودة عن الاستقالة يَسمح للمعارضة اللبنانية بالقول إنّ «حزب الله» هو مَن صاغ البيان وإنّ الحريري ومَن معه في صفقة التسوية عادوا إلى الإقامة السياسية الجبرية عند المحور الإيراني».

وأضافت: «إذا كان الحل لسيادة لبنان وللنأي بالنفس في «خطاب القسم» كما جاء في بيان مجلس الوزراء، فلماذا لم ينفّذ «خطاب القسم» على مدى أكثر من سنة؟ وإذا كان كما جاء في البيان الوزاري فلماذا لم ينفّذ هذا البيان على مدى أحد عشر شهراً؟ وإذا كانت الحكومة صادقةً في الالتزام بالقرارات الدولية فلماذا لم تجرؤ على ذِكر القرار 1559؟ وإذا كانت جدّية في تطبيق القرار 1701 فعليها أن تبسط سيادتها بقواتها الشرعية حصراً على كلّ الاراضي اللبنانية».

وإذ ذكّرَت المصادر، الحكومة ومكوّناتها «بأنّ اتفاق الطائف لا ينصّ فقط على انّ لبنان هو بلد عربي وإنّما ينصّ ايضاً على وجوب حلّ كلّ الميليشيات وتسليم اسلحتِها خلال 6 أشهر»، وتساءلت: «ماذا يعني ما جاء في البيان من انّ الحكومة قررت النأيَ بنفسها عن النزاعات والحروب في الدول العربية؟ وهل إنّ الحكومة هي من قرّرت ان تشارك في هذه الحروب لتعودَ وتنأى بنفسها؟

أمّا إذا كان المقصود قراراً اتّخذته الحكومة بمنعِ «حزب الله» وأيّ فريق آخر بالتدخّل في النزاعات والحروب العربية فعلى الحكومة ان ترفقَ قرارَها بآلية تنفيذية تكلّف من خلالها الجيشَ والقوى الامنية والعسكرية الشرعية الاخرى بتنفيذ هذا القرار من خلال منعِ انتقال مقاتلي «حزب الله» في الاتجاهين عبر الحدود البرّية والبحرية والجوّية».

وخَتمت المصادر: «الصدمة الايجابية التي قال الحريري إنه سعى لإحداثها من خلال استقالته انتهت صدمةً سلبية عند الرأي العام اللبناني الذي اكتشف أنّ القيّمين على السلطة ليسوا أصحابَ قرارهم وبالتالي فإنّهم تخلّوا عن القرار السيادي لجهات غير شرعية في الداخل تعمل وفقاً لأجندات خارجية واضحة».

الجميّل

وقال رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل: «إنّ الحكومة التزمت النأي بالنفس وكأنّ من يتدخّل في شؤون دول أخرى هي الحكومة والجيش وفي كلّ ذلك ذرٌّ للرماد في عيون اللبنانيين». وأضاف: «حرامٌ تفويت الفرصة على اللبنانيين للوصول الى حلّ جذري، خصوصاً انّنا عدنا الى ما كنّا عليه وعاد كلّ الأداء الذي رأيناه السَنة الماضية».

حرب

ورحّب النائب بطرس حرب بعودة الحريري عن استقالته، وقال لـ«الجمهورية»: «أتمنّى أن لا يكون بيان التزام النأي بالنفس تعبيراً لفظياً أو إرضاءً لفظياً بلا مضمون، وأن لا نقعَ في الإشكال نفسِه الذي وَقعنا فيه المرّةَ السابقة. تمنّياتي أن أكون مخطئاً، إلّا أنّ تاريخ الممارسة لا يبشّر بالخير».

سعَيد

بدوره النائب السابق فارس سعيد قال لـ«الجمهورية»: «البيان الحكومي لم يتطرّق الى اسباب الاستقالة، بل تطرّقَ فقط الى ابتكار مخرج لفظي لأزمة حكومية من دون تقديم مخرج للأزمة السياسية التي يتخبّط فيها لبنان والمتمثّلة بوضعِ ايران يدَها على قراره عبر «حزب الله»، وبالتالي فإنّ البيان هو أقلّ مِن «إعلان بعبدا» ويتناقض مع الدستور وقرارات الشرعية الدولية حتى ولو حملَ في طيّاته هذه النقاط».

وأضاف: «مَن يتدخل في شؤون المنطقة هو «حزب الله» الذي يَستخدم لبنان منطلقاً للتدخّل في شؤون الآخرين، ومعالجةُ تدخّلِه في اليمن مسؤولية لبنانية طبعاً، لكن هل كان ليتدخّلَ في اليمن أو في سوريا والعراق لو لم يكن موجوداً في لبنان أوّلاً؟ فوجوده بسلاحه غيرِ الشرعي وهيبتِه على حساب الدولة اللبنانية هو الذي يعطيه البيئة الحاضنة للتدخّلِ في اليمن والعراق وسوريا.

والمعالجة يجب ان تكون لسلاحه عبر العودة الى طاولة الحوار ووضعِ جدولٍ لتسليم هذا السلاح الى الجيش اللبناني تنفيذاً لوثيقة الوفاق الوطني وللدستور ولقرارات الشرعية الدولية حرفياً».

ترحيب وزاري

وكان الوزراء قد أجمعوا على الإشادة بالطريقة التي أدارَ فيها عون الأزمة، وبتضامنِ اللبنانيين، وحيّوا «مناقبية رئيس الحكومة والموقفَ النبيل الذي اتّخَذه». وحيّا الوزير علي قانصو مواقفَ عون وجهودَه ومواقفَ رئيس مجلس النواب نبيه بري، واعتبَر انّ بقاء الحريري «يشكّل اساساً للاستقرار السياسي».

أمّا الوزير مروان حمادة فقدّم ملاحظاته الشخصية ووزّعها على الصحافيين.

وركّز الوزير علي حسن خليل على «التضامن وضرورةِ استكمال المشوار مع الرؤساء الثلاثة، ومتابعة عملِ الحكومة بالفعل لئلّا تكون فترة ما قبل الانتخابات فترةَ تصريف اعمال». وقال: «على الحكومة ان تكون فاعلة وتمارس اعمالَها، وإنّ الموقف الوطني الذي ظهرَ لم يكن عابراً بل هو موقف متضامن سينعكس أداءً جيّداً وفاعلاً وباسمِ الكتلة أعلنُ الالتزام بالنص».

وهنّأ الوزير طلال أرسلان بالوصول الى «النهاية السعيدة»، وثمّنَ دورَ عون وبري، وقال: «الآن علينا العمل لحماية الاستقرار كما جاء في كلمة الرئيس الحريري، وأعلنُ التزام حزبي بالورقة».

وشكرَ الوزير يوسف فنيانوس عون على مواقفه، واعتبَر أنّ عودة الحريري عن استقالته «دليل عافية للوطن»، وتمنّى ان تكون الحكومة منتِجة في الفترة المقبلة.

وأيَّد الوزير ميشال فرعون البيان «بلا تحفّظ»، خصوصاً لجهة التشديد على «خطاب القسم» وابتعاد لبنان عن نزاعات المنطقة والتشديد على فقرة «النأي بالنفس» مع اعتماد إضافةِ الحريري حول «ضرورة الالتزام بالفعل وليس فقط بالقول». وتمنّى «إعادةَ تفعيل العمل الحكومي والعملَ على تحصين العلاقات العربية». وطالبَ باستئناف الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية «لأنّ الاتفاق عليها كفيل بتحصين الوفاق الوطني».

وقال وزير «حزب الله» محمد فنيش: «نشعر بالافتخار بوجود رئيس مِثل الرئيس عون يُدافع عن سيادة البلد وكرامته ومؤسساته مع وجود رئيس حكومة، وعلى رغم الضغوط، يصِرّ على اعتماد سياسة هدفُها خدمة مصلحة لبنان.

وأكّد «أنّ الحكومة أنجَزت خلال فترة ما عجزَت عن إنجازه حكومات طوال 15 عاماً، والمهم البحث عمّا يَجمعنا ويَخدم مصلحة البلد». وأكّد «الحِرص على استمرار هذه الروحية والاستقرار الأمني والسياسي وأن تقوم الحكومة بواجبها لتحقيق الإنجازات المطلوبة»، وأكّد التزامه البيانَ الحكومي.

فنَيش لـ«الجمهورية»

وقال فنيش لـ«الجمهورية»: «عشنا منذ عام ٢٠٠٥ التناحرَ والانقسام والمكايدة، فلم يَنُبْنا سوى تعطيل المؤسسات وتدهورِ الأوضاع على كلّ الصُعد، وفِي هذه المرحلة الزمنية اعتَمدنا الشراكة والحوار فنجَحنا في المحافظة على استقرار لبنان، كلّ واحد منّا لديه مواقفه وسياسته لكنّنا استَطعنا تنظيمَ خلافاتنا، والنهج المتبع بالتوافق والتعاون والتشاور هو النهج السليم، ومِن هنا أبلغتُ مجلس الوزراء انّنا مستمرّون بهذه الروحية وحريصون على الاستقرار ومصلحةِ البلد».

واعتبَر الوزير جبران باسيل «أنّ المواقف التي صَدرت عن مجلس الوزراء تشكّل ضماناً كبيراً وصمامَ أمانٍ للسنوات المقبلة». واقترَح إضافة عبارة «شكر الرئيس الحريري على موقفه وعودته عن الاستقالة». ولوحِظ وقوف وزير الإعلام ملحم الرياشي إلى جانب الحريري لدى تلاوتِه البيان، فيما دخل الوزير غطاس خوري إلى قاعة الصحافة للاستماع الى بيان رئيس الحكومة.

«القوات» لـ«الجمهورية»

وفيما أكّدت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» أنّ «القوات اللبنانية» لم تكن على اطّلاع مسبَق على البيان، قالت مصادر «القوات» لـ«الجمهورية»: «مسوّدةُ البيان ارسِلت الى رئيس الحزب سمير جعجع مساء امس الاوّل فاطّلعَ عليها وطلبَ من وزراء «القوات» تأييدَ مضمونه المرتكز الى مجموعة عناصر ومسَلّمات تتّصل بالقرارات الدولية والشرعية العربية و«اتّفاق الطائف» والدستور اللبناني و»خطاب القسم» وهي مجموعة نصوص مرجعية تشكّل في حدّ ذاتها ضمانَ التنفيذ».

وأضافت: «الأسباب الموجبة للاستقالة انتفَت مع مضمون هذا النص المرجعي الذي يؤكّد الالتزام بسياسة النأي بالنفس، ونؤيّده، وبذلك تكون الاستقالة قد حقّقت هدفَها، وتأكّد أنّنا كنّا على حق في ما ذهبنا إليه من اللحظة الأولى، إذ ذهبنا إلى جوهر الاستقالة وأسبابِها لأنّ الحملة علينا كانت للعودة إلى خط 4 تشرين الثاني، فيما نجحنا عبر تركيزنا على جوهر الاستقالة في نقلِ لبنان من هذا الخط الى مرحلة جديدة، وبالتالي فإنّ الاستقالة أخرَجت لبنان من هذا الخط، وما ركّزنا عليه تَحقّق اليوم من خلال تعديلٍ مهم لجهة النأي بالنفس. فما تحقّقَ كان انتصاراً للبنانيين لأنّ توريطَ لبنان في نزاعات المنطقة ينعكس سلباً عليه».

ولاحظَت المصادر «أنّ النص اليوم يختلف عن النصوص السابقة، فهناك تعهّدات وضمانات خارجية لم تكن متوافرة في مرحلة سابقة، و»حزب الله» اصبَح على دراية في انّ ايّ تجاوزٍ مستقبلاً سيؤدّي الى استقالة وإلى المسار نفسِه، لذلك سيَحسب ألف حساب لأيّ خطوة أو موقف، وسنشهد تبدّلاً في مواقفه وسلوكه. وما حصَل يصبّ في خانة تعزيز التسوية».

«حزب الله»

في غضون ذلك أطلقَ نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم مواقفَ لافتةً في مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي انعقد في طهران أمس، فقال: 

«لا بدَّ من أن يكون نموذج «حزب الله» كحركة وجماعة حاضرًا وجاهزًا لأنه استطاع خلال حقبةٍ زمنية قصيرة أن يقدّم نموذجَ المقاومة التي هزَمت أعتى قوّة في المنطقة إسرائيل»، وقال: «لن نتفرّج في محور المقاومة على أميركا وإسرائيل يقودان محور الشر للسيطرة على منطقتنا، لتفتيتِها وإنهاء القضية الفلسطينية، هم يجتمعون على باطلِهم ثمّ يقولون لنا تفرّقوا، لماذا يتعاون «حزب الله» مع إيران؟ ولماذا تتعاون سوريا مع العراق؟

ولماذا يتعاون اليمن مع شعوب المنطقة؟ أمّا هم فمِن حقّهم أن تتعاون أميركا وإسرائيل ودول الخليج وآخرون من أجل أن يَقتلوا الأطفال والشيوخ والنساء، نحن نتعاون من أجل استقلالنا ومن أجل مستقبلنا، ولذا نحن أحقُّ في أن نجتمع على حقّنا، خيارُنا أن نكون في محور المقاومة، فبلدُنا يحتاج إلى دعمِ هذا المحور، وبهذا الدعم حقّقنا تحرير لبنان من الاحتلال، وتحريرُ سوريا والعراق من الإرهاب التكفيري كان بدعم وحضور القيادة في إيران».

وأضاف: «نحن اليوم في مرحلة صياغة مستقبل المنطقة، وليسوا هم الذين يصوغونها، نحن الذين نصوغها، ونجاحاتُ هذا المحور على ائتلاف الشر الدولي مؤشرٌ على قدرتنا لحماية خياراتنا».