كما أن العودة إلى «خطوط الرابع من حزيران» كانت شرطاً لمفاوضات التسوية بين سوريا والعدو الإسرائيلي، فإن العودة إلى «خطوط الرابع من تشرين» الثاني ثبّتت التسوية اللبنانية، ووضعت حداً لمقامرة ولي العهد السعودي، وأعادت إطلاق العمل الحكومي

 
 

يطوي رئيس الحكومة، سعد الحريري، اليوم، نهائياً، صفحة «استقالته» من الرياض في الرابع من تشرين الثاني. كأنه لم يكن هو من ظهر على شاشة قناة «العربية» السعودية، ليُعلن أنه لم يعد رئيساً للحكومة. بين إذاعة البيان السعودي في ذلك النهار، واليوم، مرحلة صارت معروفة.

لكن لا بد من التذكير بها، وخاصة لجهة نشوء جبهة وطنية عريضة، تحمي الاستقرار الداخلي، ولو كان قرار العبث به صادراً من إحدى أكثر عواصم الإقليم قدرة على التأثير في السياسة اللبنانية. رفض رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الاستقالة المرسلة عبر البث الفضائي، وأيده في ذلك تحالف من القوى السياسية: الرئيس نبيه بري، حزب الله، النائب وليد جنبلاط، وجميع قوى 8 آذار، وقبلهم جميعاً، عائلة الحريري وقيادة تيار المستقبل. وأمام صمود الحريري نفسه في الرياض، وتماسك فريق عمله اللصيق في بيروت، وموقف عون والقوى الأخرى، تدخّلت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها فرنسا ومصر، لثني وليّ العهد السعودي عن مقامرة اللعب بالاستقرار اللبناني.

 


اليوم، يجتمع مجلس الوزراء ظهراً، في قصر بعبدا، ليُصدر بياناً يؤكد فيه نأي لبنان بنفسه عن الصراعات العربية. بيان استهلك وقتاً قصيراً من التباحث بين عون والحريري وبري وجنبلاط وحزب الله والتيار الوطني الحر. اقترح بري صيغة حملها معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل، وعرضها على شركائه المعتادين في مفاوضات كهذه: المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل، مدير مكتب رئيس الحكومة نادر الحريري، والوزير جبران باسيل والنائب وائل بوفاعور. سريعاً، لاقت الصيغة موافقة الجميع. بعض التحفظات أبداها الحريري، فعُدّل البيان وفقاً لها. كان خليل قد مهّد لهذا الأمر بمشاورات مع حزب الله وباقي الحلفاء في الحكومة، ومع الحريري الذي تشاور مع باسيل في العاصمة الفرنسية باريس الأسبوع الماضي. بدا أن رئيس الحكومة مصمم، منذ عودته إلى بيروت من مكان «إقامته القسرية» في السعودية، عن طريق فرنسا ــ مصر ــ قبرص، على عدم الاستقالة. وبالتالي، لا مجال لخلافات عميقة. بيان يؤكد المؤكد، مبني على البيان الوزاري، وعلى خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس ميشال عون يوم انتخابه قبل عام وشهر.
وبحسب مصادر وزارية، فإن القوى التي توافقت على البيان، أجمعت أيضاً على ضرورة تفعيل العمل الحكومي، لكن من دون الاتفاق على ملفات محددة، «ومن دون أن يعني ذلك سهولة تمرير ما لم يكن ليمرّ قبل الرابع من تشرين الثاني».
البيان الذي سيصدر عن مجلس الوزراء اليوم لن يُرضي القوات اللبنانية، التي لم يستشرها أحد في الصيغة المقترحة، لا خليل، ولا باسيل ولا الحريري. وبحسب مصادر وزارية، يُتوقع أن يسجل وزراء القوات تحفظاً. لكن من المستبعد أن يستقيلوا. فسمير جعجع يريد فعل المستحيل للعودة إلى الحضن الحريري، لكي لا يخوض الانتخابات المقبلة وحيداً.
خارجياً، سيحمل رئيس الحكومة البيان الذي سيقطع عطلة مجلس الوزراء التي امتدت شهراً كاملاً، إلى مؤتمر «مجموعة دعم لبنان»، التي ستنعقد في باريس يوم الجمعة المقبل، على مستوى وزراء الخارجية، بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومن المتوقع أن يحصل الحريري على دعم من المجموعة التي تضم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وألمانيا، ومصر، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية. لكن أصل المشكلة يبقى في الموقف السعودي. يقول الحريري لسائليه إن ما يقوم به سيحظى بغطاء سعودي. لكن مصادر وزارية تشكّك في ذلك. تلفت إلى أن رئيس الحكومة يتحدّث بالثقة نفسها التي أظهرها قبل أن يجبره محمد بن سلمان على الاستقالة. وتجزم بأن السعودية لن ترضى بالتسوية التي أنجزت. فهي ترى نفسها خاسرة. عاد الحريري إلى «خطوط الرابع من تشرين». وهي عادت معه، لكن محمّلة بآثار صفعة قوية نتيجة مقامرتها غير المحسوبة. حافظت قوى الائتلاف الحكومي على التسوية الرئاسية التي حاول ابن سلمان فضّها، وبقي موقع حزب الله على ما كان عليه بل أقوى، وعهد الرئيس ميشال عون أكثر ثباتاً وأوسع تمثيلاً، فيما خسرت السعودية جولة، وتأثرت سلباً صورتها في المنطقة والعالم، وعند جزء من جمهورها التقليدي في لبنان، وأحرقت ورقة إجبار الحريري على الاستقالة بطريقة طبيعية.