يأتي انهيار العلاقة بين الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح وبين جماعة "أنصار الله" الحوثية المهدوية، الحليفة لإيران، واشتعال المعارك في صنعاء بين الطرفين، ليدخل معطيات جديدة على مسار الأمور سواء على مستوى اليمن، أو على صعيد الإستقطاب الحاصل على صعيد منطقة الشرق الأوسط ككل، على خلفية التمدّد الإيرانيّ في المنطقة. يفرض هذا المتغيّر معطيات أخرى على متابعة مسار الأمور بالنسبة إلى الوضع الداخلي في لبنان، وأعباء إضافيّة لا يمكن الإستهانة بها، إذا ما أريد الخطو، بثبات، من أجل التوصّل إلى شيء من "المفاصلة" بين الواقع اللبنانيّ وبين البركان الإقليميّ المستعر.
تنطلق هذه "المفاصلة" من مبرّر قوي: أنّ لبنان تمكّن طيلة السنوات الماضية، لأسباب وعوامل مختلفة، ومتناقضة بين بعضها البعض، من تفادي الإنجرار إلى الحريق الإقليميّ المشرقيّ المشتعل، رغم العواقب الوخيمة لتدخّل "حزب الله" في الداخل السوريّ، بالنسبة لتأجيج هذا الحريق الإقليميّ، وأيضاً بالنسبة إلى إزدياد انعدام التوازن في الداخل اللبنانيّ، بين الحزب والمكوّنات الأخرى. يبقى أنّ لبنان استطاع بالفعل تفادي "الإنضمام" إلى هذا الحريق، وحافظ على نوع من سلام إجتماعيّ قلق، وعلى جانب كبير من الهشاشة، وداخل في اختبار فراغ رئاسي لعامين ونصف، ومثابر على تجربة أخطر بكثير، وهي امتناع الإنتخابات النيابية فيه منذ سنوات طويلة، وتجديد المجلس النيابي لنفسه ثلاث مرّات، فضلاً عن انعكاس أزمة تحلّل العقد الاجتماعي بين اللبنانيين من خلال معضلة "قانون الإنتخاب"، وهو ما لم يذلّل تماماً حتى بعد الاتفاق على قانون جديد.
ومنذ أشهر، تجد هذه المفاصلة، أو المباينة، بين "سلام أهليّ في بلد واحد"، وبين "شرق أوسط ملتهب ومتفجر" بشكل عام، ضغوطاً متصاعدة كي تمدّد لنفسها لفترة إضافية، وهي لا تسعى أساساً الا لأن تمدّد لنفسها فترة تلو فترة، إذ لا يمكن بطبيعة الحال التوصل إلى تفاهمات مزمنة وصلبة طالما أن الحريق الإقليمي "في عزّه". والأمر هنا لا يمكن أن يحل بالعزائم "الإرادوية" وحدها، ولا أن يختزل في ساحة دون أخرى، فثمّة الجبهات المتصلة بالاستقطاب الإيراني – الخليجيّ، وثمّة ما يتّصل بحسابات اسرائيل، تهدئة هنا أو حرباً هناك. الطرقات متعرّجة، صعبة، ومحفوفة بالمخاطر من كل جانب، وغير آمنة. لكن بالمطلق، لا أحد عاقل يمكنه أن يدعو لنسف صيغة سلام أهليّ ولو كان هشاً، ومثقلاً بتغلبية فئوية مرتبطة عضوياً بكل الصراعات العسكرية القائمة في المنطقة حالياً. في نفس الوقت، "كلفة" الحفاظ على هذا السلم الأهليّ، وعلى ما يسمّى "الإستقرار"، تميل إلى الإرتفاع، مثلما أنّ الحاجة إلى استكمال "السداد" المحليّ لهذه الكلفة، بغطاء خارجيّ متعدد، تزداد إلحاحاً.
في صنعاء، تواجه المعادلة التمددية الإيرانية في الشرق العربيّ، تحدياً جديّاً جديداً، يمكنه أن ينذر بخسارتها واحدة من العواصم الأربع التي تفاخر بعض قادة الباسدران بإخضاعهم لها، علماً أنّ حال كل من هذه العواصم تختلف إلى حد كبير، الواحدة عن الأخرى. وإيران التي تستشعر أكثر فأكثر بأنّ ثمّة تحريكاً متعدّد الأشكال ضدّ تمددها في المنطقة، لن تترك، هي وحلفاؤها الآخرون، الحوثيين يخسرون هكذا معركة صنعاء بسهولة، مثلما أن التناقضات بين كافة القوى المتصادمة حالياً مع الحوثيين في اليمن، لا يمكن معالجتها في يوم واحد، وبحلول سحرية. يوجد هذا، بالنسبة إلى الوضع اللبنانيّ تحديين. الأوّل، يتعلّق بالكلفة الحالية لتجديد المفاصلة بين الوضع اللبناني وجبهات المنطقة، وشكل مشاركة حلفاء ايران العرب في مساعدة الحوثيين، أو عدم مشاركتهم، في هذه اللحظة. الثاني، يتعلّق بما يمكن ان تستنتجه ايران وحلفاؤها من تجربة العلاقة مع علي عبد الله صالح في السنوات الماضية. هل يقود التقييم إلى الإقرار بأنّ هذه العلاقة كانت "خانقة" لصالح بالشكل الذي دفعه من ثم الى الجهة المقابلة، أو إلى التقييم بأنّ هذه العلاقة كانت ابقاء "لقنبلة موقوتة" يمكنها أن تصيب مشروعهم بضرر في لحظة حساسة. يخطىء من يتلو عليك الآن مسار الأيام الآتية في الداخل والخارج، في لبنان أو في اليمن. مع هذا، الأيام القليلة الآتية ستتكفّل بإيضاح مسار سنوات قادمة.