الأزمات المالية، عبارة تُستخدمّ لوصف الحالات التي تفقد فيها بعض الأصول المالية فجأة جزءًا كبيرًا من قيمتها الإسمية. وتجد هذه الأزمات مصدرها في الأسواق المالية وفي القطاع المصرفي ويواكبها ركود إقتصادي طويل المدى. وعادة ما يكون سبب هذه الأزمات خلل في المُعطيات الإقتصادية داخليًا (في بلد مُعين) أو خارجيًا نتيجة إستيراد الأزمة عبر القنوات المالية.
وتتصف الأزمات المالية بخمّس مراحل، بحسب الإقتصادي تشارلز كيندلبيرغ، هي: الطفرة، الجنون والهروب، الخوف والاضطراب، التوطيد، والتعافي.
وبحسب مجلس التحليل الإقتصادي الفرنسي، فإن وتيرة الأزمات تزداد مع الوقت. ففي الفترة ما بين العامين 1880 و1913، كانت الوتيرة 5% لتزداد في الفترة المُمتدّة ما بين العامين 1945 و1971 إلى 7%، وما بين العامين 1973 و1997 إلى 13%.
منذ الأزمة المالية العالمية (2008) التي بدأت في الولايات المُتحدة الأميركية مع الأدوات المالية المُشتقة على العقارات (Toxic Structured Products)، ظهرت إلى العلن أزمات جديدة كأزمة الديون السيادية التي ضربت حتى الإقتصادات الأوروبية والتي ما تزال تداعياتها ظاهرة حتى الساعة على رغم مرور أكثر من 5 سنوات على بدايتها.
يختلف تفسير الأزمات بحسب النظرية الإقتصادية المُستخدمة، فالنظرية الماركسية ترى في الأزمات تقديرا سيئا من قبل الإقتصاد السياسي الكلاسيكي لفرضية التوازن بين العرض والطلب. وبنظر ماركس فإن الشركات في النظام الرأسمالي تُعطي أجورا إلى عمّالها أقلّ من قيمة السلع والخدمات التي يُنتجها هؤلاء مما يعني ضعف الطلب مُقابل العرض.
أما البوست – كينزية (post-Keynesian) فتعتبر أن الهشاشة المالية هي سمة نموذجية لأي اقتصاد رأسمالي مما يعني إرتفاع مخاطر حدوث أزمة مالية خصوصًا في حالة كانت الدورة الإقتصادية في القعر. وتتطابق هذه النظرية أكثر مع إقتصادات مُغلقة.
بعض النماذج الحسابية تتحدّث عن ردود فعل إيجابية في كثير من الأحيان بين قرارات المشاركين في السوق مما يعني أنه قد يكون هناك تغييرات جذرية في قيمة الأصول وذلك بحكم ردة الفعل على تغيرات صغيرة في الأساسيات الاقتصادية.
الأزمات ودور «المركزي»
يُظهر التاريخ أن الأزمات المالية مُكلفة ومُعقّدة حيث لا تمتلك السلطات هامشا كبيرا للتحرّك خلال الأزمة. لا بل يُمكن القول أن مُهمّة السلطات في هذه الحالة تقتصر على تخفيف التداعيات السلبية. ويأتي المصرف المركزي ليلعب الدوّر الأول في إستيعاب هذه التداعيات من هنا أهميّة أخذ الإحتياطات لمثل هذه الأزمات قبل وقوعها.
تُعتبر السياسة النقدية أداة حادّة لا يُمكن إستخدامها لتصحيح الخلل في النظام المالي. لكن هذا الأمر لا يعني أن على المصرف المركزي التخلّي عن دوره في إستيعاب الأزمة، إلا أن مُهمته تصب في أخذ الإحتياطات اللازمة في الفترة ما قبل الأزمة من خلال سياسات إحترازية يفرضها على القطاع المصرفي وعلى الأسواق المالية مثل الرافعة في الأسواق المالية، أو نسبة القروض ومُتطلّبات رأس المال وغيرها.
من هذا المُنطلق لعب مصرف لبنان دورًا رائدًا إستحق من أجله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة جائزة أفضل حاكم مصرفي في العالم. فقد فرض سلامة على القطاع المصرفي اللبناني عددًا من الإجراءات الإحتياطية منها منع المصارف من التعامل بالمشتقات السامّة إلا بعد تقديم دراسة مُفصّلة إلى مصرف لبنان، تعزيز رأسمال المصارف من خلال عدم توزيع 25% من أرباحها، تكوين مؤونات للعمليات التي يقوم بها المصرف، الإحتفاظ بجزء من الودائع كإحتياط إلزامي في مصرف لبنان.
وقد إستطاع مصرف لبنان بواسطة هذه السياسة الإحترازية إعفاء القطاع المصرفي اللبناني من إستيراد الأزمة المالية العالمية التي عصفت بأهم المصارف العالمية في العام 2008. كما أنه وبفضل الهندسات المالية، كوّن إحتياطيا بالعملات الأجنبية وصل الى مستويات تاريخية ضمنت ثبات سعر صرف الليرة.
أزمة الديون السيادية
تُعاني الدولة اللبنانية من عجز في موازنتها العامّة بقيمة 45 مليار دولار أميركي تراكميًا وذلك منذ العام 2004. هذا الأمر دفع بالدين العام إلى الإرتفاع إلى مستويات عالية فاقت الـ 77 مليار دولار أميركي (أكثر من 152% من الناتج المحلّي الإجمالي).
وقام القطاع المصرفي اللبناني بتمويل عجز الدوّلة اللبنانية بشكل كبير منذ البداية، لكن نسبة تسارع التمويل إرتفعت في الأعوام الأخيرة حتى أنها تخطّت الـ 55% من إجمالي دين الدوّلة. وبالتوازي، موّل مصرف لبنان هذا العجز من خلال شرائه سندات خزينة حتى وصلت النسبة إلى ما يفوق الـ 32% من إجمالي الدين العام.
إذا كانت المصارف التجارية طمعت في البدء بالفائدة العالية التي قدّمتها الدوّلة اللبنانية، إلا أنها أصبحت مُلزمة في الفترة الأخيرة تحت ضغط تعرّضها لمخاطر إئتمان الدولة اللبنانية مما دفع بتصنيفها الإئتماني إلى الإنخفاض على الرغمّ من أصولها وسيولتها العالية.
وللتخبّط السياسي دور رئيسي في تراجع الإقتصاد وذلك كنتيجة لسياسة التعطيل والمُحاصصة، وبالتالي غياب القرار الإقتصادي ومعه تردّى الوضع الإقتصادي، وإزدادت حاجة الدوّلة إلى التمويل حيث من المُتوقّع أن تفوق حاجتها إلى التمويل في العام 2018 الـ 7.9 مليار دولار أميركي.
كل هذا يُنذر بمخاطر سيادية عالية قد تُطيح بالكيان اللبناني خصوصًا أن الدولة عجزت عن أخذ الإجراءات اللازمة لوقف تدهور الوضع الإقتصادي والمالي. وبالتالي فإن خدمة الدين العام التي يُمكن تشبيهها بكرة الثلج ستكبر وسيكون حجمها أكبر من أن يتمكّن المصرف المركزي ومعه القطاع المصرفي من فعل الكثير.
دور مصرف لبنان
تبقى المُهمّة الأولى لمصرف لبنان الحفاظ على الثبات النقدي بشقيه (سعر صرف العملة وسعر صرف الفائدة). إلا أن لهذه المُهمّة حدودها، فالمعروف أن العملة الوطنية تعكس الثروة الوطنية، فإذا إزداد الدين العام بشكلٍ إسّي (Exponential) لا يُمكن لمصرف لبنان الإستمرار بالقيام بمهمّته.
لذا نرى أن مُهمّة مصرف لبنان مقرونة بإصلاحات وإجراءات من قبل الحكومة في أسرع وقت مُمكن لأن دور مصرف لبنان يبقى دعم الهيكلية المالية للدوّلة على مدى العامين المقبلين (من خلال تمويل الدولة والإقتصاد) حتى تُعطي الإصلاحات والإجراءات الحكومية مفعولها المُنتظر.
في الختام، لا بد من التذكير بأن الإقتصاد هو خالق الثروات الوحيد ولا يُمكن الإتّكال على إقتصاد ريعي كما هو الوضع حاليًا. لذا يتوجّب على الحكومة تخطّي الأزمة السياسية والإسراع في وضع خطّة إقتصادية بالتعاون مع مصرف لبنان لكي لا تُطيح الأزمة المالية بالسفينة وتُغرقها.
أي دور لمصرف لبنان في المرحلة المقبلة؟
أي دور لمصرف لبنان في المرحلة...البرفيسور جاسم عجاقة
NewLebanon
تُعتبر الأزمات المالية نتاج فقدان التوازن بين عوامل إقتصادية ومالية عدّة. وإذا كان لبنان يمرّ بأزمة إقتصادية ومالية ناتجة عن ضعف الإدارة الرشيدة للقرار الإقتصادي والمالي، إلا أن السياسة النقدية إستطاعت الحفاظ على ثباتها على مدى أكثر من عقدين. من هنا يُطرح السؤال : ما هو دور مصرف لبنان في المرحلة المقبلة؟
التعريفات:
مصدر:
الجمهورية
|
عدد القراء:
2386
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro