تمهيد:
ظلّ التصوف الإسلامي طوال تاريخه طريقة ذوقية فردية خاصّة بكلّ فردٍ من هؤلاء المتصوفة، وهي بالتالي تجربة ومُعاناة لا تتكرّر ولا تُعلّم ولا يمكن سبر أغوارها، ومع ذلك فقد ساهم أهل التصوف في التقريب بين المذاهب الإسلامية المتناحرة.
أولاً: التقريب بين المذاهب الإسلامية
كان التصوف وما زال نقطة الالتقاء بين مذاهب السُّنّة والشيعة، لأنّ من طبائع الصوفية التسامح والإرتفاع عن المجادلات والمشاحنات بما تفرضه عليهم طريقتهم من التقوى والورع، ولطالما تحدّث الباحثون عن صلاتٍ متداخلة بين التشيع والتصوف، ممّا ساهم في تخفيف غلواء التشيع، كذلك تسرّبت بعض أفكار التشيع إلى السُّنّة بواسطة التصوف، واعتبر بعض علماء السّنّة ذلك من سلبيات التصوف، لأنّ بعض الأفكار الشيعية، وهي في نظرهم من البدع، تسلّلت إلى النُّساك والعامّة من أهل السّنة، إلاّ أنّ الراسخ يبقى أنّ التصوف حاول دائماً أن يلعب دور الاستقطاب المُوحّد لكافة الفرق الإسلامية، وفي ذلك يشير كامل الشيبي (في كتابه الفكر الشيعي والنزعات الصوفية) إلى أنّ كمال الدين هيثم البحراني (توفي عام ٦٧٩هجرية) ، وهو من كبار علماء الشيعة، تسامى بفضل تصوفه بكثيرٍ من معتقدات الشيعة الإثني-عشرية، فاستحال مفهوم التّبرّي الشيعي (أي البراءة من أعداء علي بن أبي طالب وسائر الأئمة) إلى معنى صوفي صرف هو براءة الإنسان من حوله وقوّته ، وعدم الالتفات إلى النفس بعين الرضا والتزكية، كذلك اعتبر السّبّ أمراً مبتذلاً يجب أن يتخلّى عنه الشيعي، وأباح أخذ العلم عن أئمة أهل السّنّة ، ومنهم الإمام الغزالي، مع خصومته الشديدة للشيعة، وهكذا يصبح مع التصوف إمكانية الانفتاح بين المذاهب المغلقة والمتعصبة.
إقرأ أيضًا: على وقع مجزرة مسجد العريش في سيناء ... لمحات عن التصوف الإسلاميثانياً: النزعات الإنسانية المنفتحة
ويذهب أهل التصوف لأبعد من التقريب بين المذاهب، والصوفي لا يُفرّق بين البشر كسادة وعبيد وأجناس، وأبرز تمثيل لهذه النزعة الإنسانية المنفتحة عندهم أبيات ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ
فمرعى لغزلانٍ، وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ
وألواح توراةٍ، ومصحف قرآن
أدينُ بدين الحُبّ، أنّى توجّهت
ركائبهُ، فالحُبُّ ديني وإيماني.