جاء وفد رئيس سوريا السابق بشّار الأسد إلى جنيف و«سجّل حضوره» واكتفى بذلك، من دون أن يفاجئ أحداً بأي استطراد خارج النص: هاجم الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، ثمّ حمّل المعارضة وبيانها في الرياض مسؤولية «الفشل» في الجولة الثامنة! وكأنّ ذلك البيان نزل فجأة على جنيف ولم يصدر مسبقاً! أو كأنّ المواقف الواردة فيه جديدة وطارئة وما كانت لا في الحسبان ولا على الخاطر!
وفد الأسد الذي جاء مضطرّاً إلى الجولة الثامنة، سيعود مضطرّاً إلى الجولة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة.. لكنّه أكثر من ذلك لا يبدو معنيّاً بأي شيء. وما حمله معه في الجولة الأولى سيبقى على ما هوَ عليه مهما طالت العملية التفاوضية، ومهما استجدَّ ميدانيّاً.. كان متمترساً في لحظة انحداره خلف جدار رفض تقديم أي «تنازل»! وزاد تمترسه في لحظة صعوده المفترض! وسيبقى في مكانه طالما أنّ رعاته الروس لم يقرّروا شيئاً آخر. وطالما أنّ شدّ الحبال لا يزال البديل الوحيد الظاهر عن اتفاق ما، إقليمي ودولي، يطال سوريا وغيرها من القضايا الولعانة في المنطقة وفي غيرها.
والأمر في واقع الحال لا يخلو من الغرابة. ولا تعوزه دواعي الارتباك: تارة تُسرَّب معلومات وخبريّات عن «اتفاقات» و«تفاهمات» و«تسويات» موضعية ومرحلية. وتارةً (وبسرعة!) يتبيّن العكس! وكلّ يوم بيومه! تكتيكات متضاربة. ومواقف تتغيّر على مدار الساعة. وتحالفات تُبنى ثمّ تفرط تبعاً لموقع هنا وموقعة هناك! وكأنّ الحرب على الإرهاب «الداعشي» كانت الحبل الوحيد الذي ربط بين كلّ المعنيين بالنكبة السوريّة، وعندما انتهت أو تكاد، انقطع ذلك الحبل، وعاد كلّ فريق إلى ذاته، يفتّش عن موقفه مثل العامل في البورصة الذي يفتش عن صفقة رابحة، من دون أن يتحكّم باللعبة وأرقامها ولا بمتوالية الصعود والهبوط!
وطالما أنّ «السوق» على هذه الفوضى فإن بشّار الأسد على مواقفه! ولا يضيره شيء سوى انتظام أمور العلاقة الروسية – الأميركية في شأن سوريا أولاً، وما يعنيه ذلك من تتمّات تطال كل «تفصيل» آخر. أكان ذلك يتعلّق بالإيرانيين وأدواتهم و«مواقعهم»، أم بالإسرائيليين وحساباتهم و«قلقهم» من وقائع الميدان السوري!
وبرغم كل ذلك التعقيد، فإنّ الموقف الروسي هو الأكثر تحكّماً بمسار الأمور السورية. لكن المعضلة الظاهرة، تكمن في أن عين موسكو مركّزة على شؤون الإدارة الأميركية أولاً وأساساً. وتبني مواقفها تبعاً «لتطوّر» تلك الشؤون، أكان الأمر يتعلّق بـ«الصراع على النفوذ» فيها أو بمسار التحقيقات في قضية التدخّل في الانتخابات الرئاسية! وهذه وضعية غير مسبوقة بهذه الحدّة والخطورة، حيث أنّ موقف أكبر وأقوى دولة في العالم إزاء أيّ قضيّة خارجيّة، ليس واضحاً وواحداً ومحدّداً ونهائيّاً وحاسماً! بل يبدو في واقع الحال وكأنّه تجريبي وعابر تبعاً لتناقض أصحاب القرار وتعدّدهم: دونالد ترامب «يغرّد» كما يشاء ووزير خارجيّته آخر مَن يعلَم بداية، أو إن مواقفه معاكسة أصلاً لذلك التغريد الرئاسي! وكذا الحال في كلّ مقام. مواقف المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي «أكثر حدّة» من مواقف رئيسها! ومواقف «المستشار» غاريد كوشنر «غير منسّقة» مع دوائر الخارجية أو غيرها من المؤسسات المركزية المعنية! وذلك التناقض يطال مروحة تبدأ من كوريا الشمالية لتصل إلى سوريا مروراً بما بينهما!
هذه الدربكة الفوضوية تنعكس على «قضايانا» وتُربك الجميع تقريباً، بما فيهم الروس و«سياستهم» السورية والإيرانية! وما يتصل منها بجنيف أو سوتشي أو الآستانة! أو مناطق خفض التصعيد وخصوصاً في المنطقة الجنوبية! أو بالطريق إلى «الحل السوري» الأخير!