على هامش الحديث عن الضمانات والتطمينات التي تُنهي التريّثَ الحكومي، يَكثر الكلام عن انسحاب «حزب الله» من أزمات المنطقة، وخصوصاً مِن الأزمة السورية. فيما أوردت تقارير ديبلوماسية من واشنطن وموسكو سيناريوهات حول «تفكيك الميليشيات تدريجاً» في المنطقة على رغم الصعوبات في سوريا.لا يمكن أحداً من المتعاطين بالملف السوري نفيُ السيناريوهات الموضوعة لِما بعد «داعش» و«النصرة» في العراق وسوريا. وكلّ المساعي لإيجاد الحلول السياسية للأزمة السورية بعد العراقية لم تأتِ مِن فراغ، والتفاهمات التي صيغَت عقِب التدخّل الروسي في سوريا (30 أيلول 2015) لم تكن إفرادية أو مِن طرف واحد.
ورُبَّ قائلٍ عند الحديث عمّا يؤكّد هذه النظرية إنّ الأجواء السورية التي أعقبَت تلك الفترة شهدَت على ترسيمِ خطوط جديدة للطيران المدني والحربي فوقها وفي دول الجوار أيضاً.
ولا يمكن أحداً نِسيان كيف أدارت موسكو هذه الأجواءَ بين طائراتها الحربية ونظيراتها الأميركية وبين تلك التي استخدَمها الحِلف الدولي فوق سوريا ومحيطها لمنعِ أيّ احتكاك في ما بينها رغم أنّ أهدافها كانت متناقضة إلى حدٍّ بعيد.
مع استثناء واحد، إذ بقيَت الأجواء السورية مفتوحة أمام الطائرات الحربية الإسرائيلية فشنَّت غاراتها على كلّ مساحة سوريا من الجنوب إلى الشمال والعاصمة ومحيطها.
وقبل أن تتفاهمَ موسكو وواشنطن على توحيد لوائح المنظمات الإرهابية والحليفة التي نشأت في سوريا بدعمهما المباشر، باتت الحاجة ماسّة إلى وضعِ معجمٍ جديد بأسماء المنظمات وقادتِها وأمرائها ومنسّقيها، وخصوصاً التي نشأت بين ليلةٍ وضحاها على أنقاض أُخرى.
فتبدّلت أسماء الناطقين الرسميين والمفاوضين عند كلّ استحقاق ومحطة من محطات الحرب وجولاتها والمفاوضات التي جرت ما بين جنيف وآستانة وفيينا وأنقرة وبروكسل وأنطاليا وجدة والرياض، عدا عن موسكو وطهران وواشنطن وفي أكثر من مدينة ومركز للأمم المتحدة.
على هذه الخلفيات، تتوالى السيناريوهات التي تُحاكي الجديد في مجرى الأزمة السورية بعدما شارفَت القوى الدولية القضاءَ على المنظمات الإرهابية، وسط اعتقادٍ يقود إلى مرحلة جديدة أمسكت فيها القوى الدولية والإقليمية بناصيةِ الأرض والسياسة معاً، بدليل أنّ القتال في بعض المناطق والجبهات السورية كاد يتحوّل بين الدول الراعية لهذه المنظمات بعدما تدخّلت مباشرةً وباتت تُمسِك بالأراضي السورية وسط خطوطِ تماسٍ يُخشى منها أن تتحوّل حدوداً ثابتة بين «الدويلات السورية غير المتّحدة».
ففي ظلّ التدخّل التركي والكردي المباشر في المعارك في مناطق منَعت قوات النظام وحلفائه الإيرانيين واللبنانيين من دخولها، عدا عن المناطق التي تحوّلت قواعدَ روسية وأميركية، تَجدّد الحديث عن مفاوضين تَعمل الرياض لجمعِهم وتوحيد وفدِ المعارضة إلى المفاوضات المقبلة في «جنيف» أو «آستانة» أو «سوتشي» بعد سقوط الاقتراح الروسي بعقدِ مؤتمرِ «شعوب سوريا» في قاعدة حميميم الروسيّة.
وفي خضمِّ المشهد المتناقض بين الاستعدادات لجولاتٍ جديدة من الحرب وبين أخرى للانتقال السِلمي، تتقاطع التقارير الدبلوماسية الروسية والأميركية على سيناريو جديد يتناول مستقبلَ الميليشيات التي خاضت الحربَين العراقية والسورية بهدف تفكيكها تدريجاً لتعود السلطة، سواء شكّلت امتداداً لِما كانت عليه كما في العراق في ظلّ الاستقرار السياسي المتوفّر بالحد الأدنى هناك، أو تلك الجديدة الجاري تأسيسُها في سوريا.
وعلى رغمِ تلاقي هذه التقارير على عنوان «تفكيك الميليشيات» لمصلحة الحكومات والأنظمة ثمّة خلافٌ، أو سباق، على إظهار التجربة الأولى المنفّذة، في كردستان العراق أو في غزّة. فانهارت سلطة «حماس» في غزّة التي ألحِقت بالسلطة الفلسطينية تزامناً مع انهيار مقوّمات سلطة كردستان، وسلّمت منطقة كركوك وآبارها النفطية وبوابات الحدود ومواردها المالية إلى الحكومة المركزية العراقية.
وانطلاقاً مِن هاتين التجربيتن تتحدّث تقارير ديبلوماسية عن سيناريو مشابه سيبدأ في العراق قريباً لتفكيك «الحشد الشعبي» أو دمجِه في الجيش العراقي.
وثمّة حديث جدّي عن تعهّدات قطعَها رئيس الحكومة حيدر العبادي أمام الأميركيين والسعوديين والروس بهيكلة الجيش بما يعيد للسنّة حقوقاً تبخّرَت عسكرياً وأمنياً وسياسياً أيام سلفِه نوري المالكي. وينتظر العبادي الانتخابات النيابية مطلعَ الربيع المقبل لإنهاء بقايا مرحلة المالكي ورموزها.
وهذا السيناريو مرجَّح وصولُه إلى سوريا قريباً مع الانتهاء من التنظيمات الإرهابية وإعادةِ تكوين السلطة، وقد تمّ تفاهُم أوّلي عليه بين الروس والأميركيين، ولم تكن قمّة سوتشي الروسية ـ التركية ـ الإيرانية بعيدةً منه.
وأياً كانت الآلية التي ستُعتمد في الدستور الجديد وتركيبة السلطة فستشمل تفكيكاً للمنظمات التي دخلت إلى سوريا وتلك التي أسّسها النظام والحرَس الثوري الإيراني و«حزب الله» محلياً لمصلحة القوى العسكرية الشرعية التي سيُعاد بناؤها وفق نظامٍ جديد.
وفي ضوء كلّ هذه الملاحظات والسيناريوهات المرسومة سيكون على «حزب الله» العودة من سوريا بلا أسلحته التي كانت وستبقى في عهدة دولةِ المنشَأ لتبتّ بمصيرها ودمجِها على الأرجح بالقوّة العسكرية السورية النظامية التي سيُعاد بناؤها وفق العقيدة التي سيُكرّسها الدستور الجديد، فينتفي وجود أيّ اعتبار لخطوةٍ من هذا النوع على لائحة الضمانات في اعتماد لبنان مبدأ النأي بالنفس عن أزمات المنطقة والانسحاب منها إلى الداخل اللبناني.