زالت، او تكاد، «دولة الخلافة» التي أنشأها تنظيم «داعش» قبل أكثر من ثلاث سنوات، وإذا كان نجاحُه في فرض سيطرته على مساحات شاسعة من سوربا والعراق استند الى جملة عوامل كالفوضى القائمة والفساد والظلم الذي لحق ببعض المناطق ذات الغالبية السنّية، إلّا أنّ جوانب أساسية لا تزال غامضة أو بمثابة «أسرار الحرب»، كانت السببَ الرئيس لنجاح هذا التنظيم الإرهابي في امتلاك السلاح وفرض سيطرته، وبالتالي سلطة دولته، على المنطقة التي عُرِّف عنها بأنّها «أرضُ الخلافة».
رغم ذلك لم تكن هذه الدولة المزعومة في حاجة لكل هذا الوقت للقضاء عليها. صحيحٌ أنّ تحالفاً دولياً نشأ بذريعة محاربة دولة «داعش» تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، لكن بات معروفاً أنّ الطائرات الحربية التي انضوت تحت قيادة هذا التحالف كانت تُنفّذ غاراتٍ غير مؤذية، في وقت كانت تعود من طلعاتها الجوّية وهي لا تزال تحتفظ بزهاء 90 في المئة من صواريخها وقذائفها.
وفي الحقيقة كان «بنك الاهداف» شحيحاً في تحديد أهداف حقيقية، ما سمح لـ«داعش» بتصدير النفط عبر تركيا ومن خلال قوافل الصهاريج التي كانت مكشوفة وواضحة وفي عزّ النهار.
كانت واشنطن تريد ترتيباً مسبَقاً لورقة «داعش» ولخريطة النفوذ لما بعد زوال دولته. وجاء الدخول الروسي القوي والفاعل في سوريا بمثابة «الشريك المضارب» والساعي للإمساك بمفاصل اللعبة، ولو من خلال تفاهم حول العناوين العريضة، وليس التفاصيل مع واشنطن.
ومن الطبيعي أن تكون قيادة التنظيم الإرهابي قد راهنت على التناقضات الكثيرة التي كانت تسود الجبهة المناوِئة لها. التناقضات ما بين واشنطن وطهران، وما بين طهران وأنقرة، وما بين أنقرة وموسكو، وما بين طهران وموسكو، وما بين واشنطن وكل هذه العواصم وسط تضارب في المصالح.
رهان قيادة «داعش» كان صحيحاً، ولكن لفترة محدودة لم تتجاوز السنوات الثلاث.
ولكن كل هذا أصبح من الماضي لتصبح دولة «داعش» من التاريخ، لكنّ زوال دولة الخلافة شيء، وزوال إرهاب التنظيم مسألة أخرى، لا بل على العكس، فإنّ «داعش» الذي خسر دولته عاد ليفعّل تركيبته السرّية وعمله تحت الأرض، وهو باشر الثأر لخسارة دولته من خلال إرهاب أكثرَ وحشيّة، وجاءت عملية مسجد الروضة في العريش شمال سيناء لتؤكّد ذلك.
وأهمّية العملية لا تكمن فقط في أنها الاكثر دموية، وربما وحشيّة، ولكن لأنها استهدفت مصلّين مسلمين سنّة على رغم أنهم من أتباع الطريقة الصوفيّة، ما يعطي دليلاً واضحاً على وجود قرار داخل التنظيم الإرهابي بتنفيذ عمليات أكثر دموية تهدف لقتل أكبر عدد ممكن من الاشخاص أيّاً تكن انتماءاتهم الدينية، بعدما كان «داعش» يهدف سابقاً الى كسب ودّ المجتمعات السنّية وانتزاع تعاطفها وتأييدها.
وقد يكون تنظيم «داعش» أراد أيضاً استهداف القبائل التي تسكن سيناء وكانت على تواصل معه خلال المرحلة الماضية، حيث إنّ المصلّين ينتمون اليها، بعدما فتحت هذه القبائل قنوات تواصل وربما بداية تعاون مع السلطات المصرية، ما يجعل العملية الإرهابية رسالة تهديد للقبائل لردعها عن أيِّ تعاون محتمل.
المهم أنّ الأجهزة الأمنية الاميركية تعتقد أنّ العمليات المنفردة لـ«داعش» ستسود المرحلة المقبلة، لا بل ستزيد، مشيرةً الى انه سيكون من الصعب وضع حدٍّ لها.
وفي السياق نفسه، هدّد التنظيم الارهابي باستهداف الأسواق الأوروبية في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة، وكذلك إحباط عملية إرهابية في ملبورن في استراليا كان من المقرّر أن تحصل في رأس السنة من خلال إطلاق النار.
المصادر الأمنية الأميركية والأوروبية على حدٍّ سواء تقول إنّها رصدت استعداداتٍ لتحريك الخلايا النائمة والذئاب المنفردة في كل مكان في العالم، ولبنان إحدى هذه الساحات.
وعملية مسجد الروضة التي فاجأت العالم بوحشيّتها، لم تفاجِئ المسؤولين الأمنيين اللبنانيين. فمن خبايا المرحلة الماضية عملية «كازينو لبنان» التي كانت مشابهة لناحية أسلوب التنفيذ لو قدّر لها أن تحصل.
فمنذ نحو سنتين، كانت العناصر الإرهابية تتسلّل الى الداخل اللبناني من خلال منفذَين: الأول جرود عرسال، والثاني بعض الثغرات الحدودية الشمالية. كانت هذه العناصر تحمل أوامر مهمة لتنفيذ عمليات إرهابية مصدرها الرقة، وكانت تنجح في التسلّل الى الداخل اللبناني من خلال استغلال التنقّل بين مخيّمات النازحين السوريين المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية.
يومها اعترف أحد الذين كانوا يحضّرون لعملية «كازينو لبنان» بالخطة المرعبة: دخول فتاتين الى داخل صالات اللعب في الكازينو، وهما تلبسان ثياباً متحرّرة تجنّباً لإثارة الشكوك على أن تفجّرا نفسَيهما من خلال سترتين مفخّختين ترتديانهما.
وإثر التفجيرات الانتحارية سيسقط ضحايا بطبيعة الحال، لكنّ الأخطر ما كان سيحصل إثر هروب كل مَن في الداخل الى الخارج عبر المدخل الرئيسي، ذلك أنّ أربعة عناصر من «داعش» كان من المفترض أن يتمركزوا في الحرش المواجه لمدخل الكازينو، ويفرغون رصاص أسلحتهم في الجموع الهاربة خارجاً.
عملية تحمل الأسلوب نفسه للذي جرى في سيناء. لكن مع إنهاء وضع التنظيمات الإرهابية في جرود عرسال وإقفال المنطقة تماماً، اضافة الى الثغرات الحدودية الشمالية، تراجعت المخاطر الإرهابية، وخصوصاً بعد سقوط الرّقة وانهيار دولة «داعش». إلّا أنّ ذلك لا يعفي لبنان من مخاطر أخرى جاري التحضير لها.
فعدا الانقسامات السياسية الداخلية والتي تمثّل إغراءً لجذب النيات الإرهابية، فإنّ اكتشاف عملية ملبورن في أوستراليا والتي كانت مقرّرة ليلة رأس السنة أظهرت أنّ العملية كانت تقوم على اطلاق النار على الجموع من خلال متّهم تمّ تجنيدُه من خلال الانترنت، وهو ما يعني نجاح التنظيم في تطوير وسائل التجنيد لتصبح كافية من خلال الإنترنت فقط ومن دون الحاجة الى تواصل بشري مباشر. وهو ما يعني ارتفاع مستوى المخاطر التي يمكن أن تهدّد لبنان، خصوصاً إذا ما قورن هذا بالمناخات السياسية المساعدة.
ففي عملية شمال سيناء، قيل إنّ عناصر من حركة «حماس» إنتقلوا منها الى «داعش» بعد خيبة أملهم من بنود المصالحة مع حركة «فتح» والتسليم بعودة غزة الى حضن السلطة الفلسطينية، وسط حديث أميركي جدّي عن قرب التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية ونقل السفارة الأميركية الى القدس.
وفي المقابل، تلوم الأجهزة الأمنية الأميركية السلطات المصرية كونها رفضت التعاون بنحو وثيق في منطقة شمال سيناء، حيث الحدود مع إسرائيل، وأنّ هذا ما جعل قدرات مصر لمكافحة الإرهاب محدودة.
أما في سوريا ولبنان، فإنّ روسيا على وشك إعلان فوزها في الحرب على الإرهاب، وهي تسعى الى ترجمة هذا الانتصار سياسياً من خلال تثبيت موقعها الاول في المنطقة عبر محاولة كسب السلام. ويعمل الروسي فلاديمير بوتين لاستثمار انتصاره في حملاته الانتخابية لانتزاع تجديدٍ لولايته في انتخابات الرئاسة المقرَّرة في آذار المقبل، وهو ما يشكّل فرصةً لـ«داعش» وربما لخصوم بوتين لتوجيه ضربات إرهابية موجعة له.
وكذلك تسعى إيران لحماية المكاسب التي حقّقتها وتثبيت موقعها وتحصينه من خلال ضمان التواصل البرّي والذي يربط طهران بـ«حزب الله» من خلال الشاطئين السوري واللبناني، وهو ما يشكّل ايضاً إغراءً لـ«داعش» لتنفيذ عمليات إرهابية سيستفيد منها بلا شك خصوم طهران في المنطقة، وهم كثر والساعون الى تحجيم «حزب الله».
ولا شك في أنّ لبنان أثبت جدارةً مثيرةً للإعجاب في مواجهته للإرهاب من خلال الحرب الاستباقية التي نجحت في تطبيقها الأجهزة الأمنية اللبنانية، والتي أدّت الى إحباط كثير من هذه العمليات واكتشاف الخلايا تحت مظلّة سياسية مساعِدة.
لكنّ المخاطر لا تزال موجودة لا بل إنّها أصبحت مرتفعة اكثر، ومحاربة الإرهاب تبقى اساسية من خلال الامن الاستباقي وناجحة من خلال المظلّة السياسية، ولكنها تظلّ ناقصةً بلا خطط إنمائية وتحسين الواقع الاقتصادي، في وقت تبدو الأزمة الاقتصادية خانقة وبلا مؤشرات الى انفراج.