المناخ العام إيجابي، يتسابَق أهل الدولة على ضَخّه في الاجواء الداخلية، وتبدو مقارباتهم لأزمة استقالة الرئيس سعد الحريري، الذي غادر مساء أمس الى باريس للقاء عائلته، وكأنها مُستبطنة كلمة سرّ غير معلنة، تؤشّر الى انّ صفحة الاستقالة قد طويت نهائياً، وانّ الاسبوع المقبل سيشهد فتح صفحة حكومية جديدة مختلفة عمّا كانت عليه قبل «سبت الاستقالة» في الرابع من تشرين الثاني الجاري. يتزامن ذلك مع انشغال الاوساط السياسية في متابعة طرح الحريري التعديل الحكومي، وكذلك في تقييم طرح ثان يقول بتقديم موعد الانتخابات النيابية. واللافت انّ هذين العنوانين يتطلبان توافقاً بين كل القوى السياسية. وعلى رغم قول مراجع رئاسية وسياسية بعدم ممانعتها تقريب موعد الانتخابات، الّا أنّ مصادر معنية بهذا الملف قالت لـ«الجمهورية» انّ التبكير بالانتخابات دونه عدم القدرة اللوجستية والقانونية والسياسية على إجرائها قبل موعدها في الربيع المقبل». امّا التعديل الحكومي، فهو موضوع شديد الحساسية، ويتطلّب توافقاً شاملاً ليس متوافراً حتى الآن، وقد لا يتوافر نظراً لِما قد يتأتّى عنه من تداعيات. وتُجمع المقاربات السياسية له على انّ حظوظه قليلة، الّا انّ بعض المصادر تدعو الى ترقّب الموقف النهائي لـ»التيار الوطني الحر» من هذا الأمر.
أجمَع الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري على الايجابية، فأكد رئيس الجمهورية أنّ الازمة الاخيرة باتت خلفنا، واعتبر رئيس مجلس النواب، الذي استقبل قائد الجيش العماد جوزف عون، انّ «الإجماع اللبناني الذي تجلى بأفضل حالاته في مواجهة الازمة شَكّل ارتكازاً للاجماع الدولي على دعم لبنان واستقراره».

فيما أكد رئيس الحكومة، الذي لمس زوّاره انه «مصمّم على البقاء في موقع تَحمّل المسؤولية»، أنّ «الأجواء ايجابية، وإن شاء الله خلال الأسبوع المقبل، إن بقيت هذه الايجابية قائمة، فسنبَشّر اللبنانيين مع الرئيسين عون وبري بالخير».

أجندة... وتشريج

اذا كانت الخطوط العريضة والجوهرية للتفاهم السياسي الجديد قد صاغَتها المشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية في بعبدا، وكذلك الاتصالات المباشرة في ما بين القوى السياسية الرئيسية، على وَعد تظهير هذا التفاهم ببيان حكومي أواسط الاسبوع المقبل يؤكد التزام لبنان بالنأي بالنفس وبالطائف كمرجعية حاكمة للنظام السياسي وبتأكيد حرص لبنان على علاقاته العربية ورفض التدخّل في الشؤون الداخلية أيّاً كان مصدره، فإنّ الشغل الشاغل لهذه القوى - وهذا ما يؤكده اكثر من مسؤول - هو كيفية تنظيم واعداد أجندة أولويات وملفات مرحلة ما بعد الانطلاقة الحكومية الجديدة.

وبقدر ما بَدت الحاجة مُلحّة الى وضع ما سُمّي التفاهم الجديد القائم على ثوابت وعناوين سياسية ووطنية جديدة تكون ملزمة لكل الاطراف من دون استثناء، وليس مجرد تعابير وصياغات إنشائية ولغوية لا تقدّم ولا تؤخّر، فإنّ أكثر من وزير أكد لـ«الجمهورية» أنّ «الحاجة تبدو اكثر إلحاحاً لوضع أجندة اولويات جدية لمرحلة ما بعد الولادة الثانية لحكومة الحريري، ومقاربات مختلفة عمّا كانت عليه قبل 4 تشرين الثاني، تخدم عناوين المسؤولية والشفافية ومصلحة الناس، وتطوي صفحة الأداء الحكومي السابق بكل الشوائب التي اعتَرَته».

ويتلاقى ذلك مع تأكيد شخصية سياسية بارزة لـ«الجمهورية» انّ الحاجة في ظل عملية «التشريج الجديد» للتسوية القديمة، «أكثر من ضرورية الى تحديد النأي بالنفس والتزام كافة الاطراف به»، وانّ البيان الذي سيصدر «يجب ان يقترن بميثاق شرف يؤكد التزام كل الاطراف، ويترجم بالانسحاب الحقيقي والفعلي لـ«حزب الله» من اليمن وسوريا والعراق، الأمر غير المتوافِر حالياً».

وتشير آخر المعلومات الى انّ التعويم الجديد الجاري للتسوية لن يتوقف الّا اذا كانت السعودية أبلغت الحريري عدم سَيرها بهذا المضمون، وهي لم تعط بعد موقفاً علنياً، لكنّ الاتصالات الاميركية والفرنسية والمصرية التي جرت مع الرياض في الساعات الـ 48 الفائتة أظهرت انّ المملكة مُمتعضة ممّا يجري في لبنان، ولكن لم يعرف بعد ما اذا كانت ستعَطّله ام انها ستنتظر ظرفاً آخر.

الوضع السياسي أولاً

وعلى رغم ذلك، بَدا جَلياً انّ المستويات المسؤولة في الدولة تضع «الاولويات والملفات المتراكمة» في مرتبة ثانية، وعلى حدّ قول مسؤول كبير لـ«الجمهورية» فإنّ مقاربة الاولويات والملفات الحيوية هي فعل يومي لا يجب ان يتوقف، الّا انّ الهمّ الأساس حالياً يتمثّل بإنعاش الوضع السياسي الذي أدخَلته أزمة استقالة الحريري في غيبوبة خطيرة، وهَدّدت بالتمدد سلباً نحو القطاعين المالي والاقتصادي، وهذا الانعاش يحتاج الى غرفة عناية دائمة لئلّا يتعرّض لأيّ انتكاسة، التي قد تكون مُكلفة إن حصلت، وكما تعلمون فإنه عندما يشفى الرأس يَسلم الجسد».

يتقاطَع كلام المسؤول المذكور مع نظرة تشاؤمية تُبديها مصادر وزارية حول المرحلة الحكومية المقبلة، ولا سيما لناحية عدم تَمكّن الحكومة من الإحاطة بأجندة الاولويات المتراكمة، حتى ولَو تقرّر ترتيبها من جديد والسَير بها، وذلك نظراً للعمر القصير المتبَقّي للحكومة الذي لا يزيد عن ستة أشهر، خصوصاً انّ هذه الفترة تعتبر فترة انتقالية وتحضيرية للانتخابات النيابية المقرر إجراؤها يوم الأحد في 6 أيار 2018.

تنظيف السجل العدلي

وفيما اعتبرت المصادر أنّ العمر القصير للحكومة يوجِب ان تُمنح - إذا انطلقت مجدداً - فترة سَماح تتناول فيها عناوين وملفات محددة، قال وزير وَسطي لـ«الجمهورية»: «الحكومة يجب ان تعود الى استئناف عملها، فوجودها ضرورة، ولكن هذا لا يعني أن تعود الى المراوحة في ذات السياسة والشوائب والأداء التي دفعت الى الشك بها وبصدقية تَوجّهها وبشعاراتها، وزَرعت البذرة التي أنبَتت أزمة الاستقالة وكل ما أحاط بها، من مداخلات والتباسات».

المعارضة

بدورها، قالت مصادر معارضة لـ«الجمهورية»: «بصَرف النظر عن الظروف السياسية التي تحيط بالحكومة ورئيسها حالياً، والصيَغ التفاهمية التي تنسج فيما بين أركان السلطة الحاكمة، فإنّ أمام الحكومة، إذا عادت الى استئناف عملها الطبيعي، فرصة لتبييض او تنظيف السجل العدلي للأداء الحكومي السابق الذي تَلطّخَ بالسَمسرات والصفقات المشبوهة والتفاهمات السرية التي سَعَت، عن سابق تصور وتصميم، الى الاستئثار بكل شيء وبَلع مال الخزينة».

واستبعدَت المصادر «أن تتمَكّن الحكومة، في ظلّ العقلية السائدة، من تقديم أداء جديد مختلف عمّا سبق». ورَدّت «انّ وضع الحكومة لا يُبشّر بخير». وسألت: «كيف لحكومة ان تقلّع وتعمل وتنتج، فيما هي بحاجة الى إعادة ترميم داخلي والمتاريس منصوبة في داخلها بين قوى سياسية متناقضة، ويسودها خلاف كبير وحساسيات حوّلتها من حكومة استعادة الثقة الى حكومة فاقدة للثقة ببعضها البعض، بدليل الافتراق الحاد بين رئيس الحكومة وبين بعض مكوّناتها، وقد عَبّر الحريري عن رغبته في إجراء تعديل حكومي لإخراج بعض الوزراء»؟

قانصو

وسألت «الجمهورية» الوزير علي قانصو عن موعد انعقاد جلسة مجلس الوزراء، فأجاب: «لم نتبلّغ بعد أيّ دعوة»، مُرجّحاً أن تخلو من اي جدول أعمال، مُبدياً اعتقاده «بأنّ أهم موضوع، وربما كان الموضوع الوحيد على جدول أعمالها، هو تأكيد ما جاء في البيان الوزاري لجهة النأي بالنفس والابتعاد عن المحاور وحماية السلم الاهلي والاستقرار». وقال: «سيحصل نقاش، مُستفيدين من جو المشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية.

وعلى أثرها سيصدر موقف باسم الحكومة يؤكّد الالتزام بما جاء في البيان الوزاري لجهة النأي بالنفس والابتعاد عن المحاور، ما يُطمئِن الرئيس الحريري».

وعدّد قانصو الملفات المهمة امام الحكومة في المرحلة المقبلة، «والتي يجب ان توضَع على نار حامية، وهي: النفط، الكهرباء واستئجار البواخر، موازنة 2018، التحضير للانتخابات النيابية في موعدها في ايار، حاجات المناطق الانمائية، والملف التربوي من باب الالتزام بسلسلة الرتب والرواتب ومترتباتها على الاقساط المدرسية بعد الضجّة على هذا الصعيد، ويفترض بالحكومة ان تضع يدها على هذا الملف».

ورأى «انّ التحدي الأكبر حالياً هو كيف يستعيد لبنان عافيته، لأنّ هذه الازمة أظهَرت وكأنه في مرض شديد، والمطلوب ان يتعافى وان تتعزّز وحدتنا الوطنية واستقرارنا السياسي والامني والاقتصادي، ونستفيد من عناصر قوة لبنان، وفي طليعتها الجيش والمقاومة».

الوضع المالي ينتظر

على المستوى الاقتصادي والمالي، يبدو الوضع في الثلاجة، بانتظار ما ستسفر عنه الأزمة السياسية العالقة تحت مسمّى «التريّث». وقد ساهمت الأزمة في اضطرابات اضافية في الاسواق، من خلال الانعكاسات التي سيتركها قرار رفع اسعار الفوائد على القروض والودائع، إذ سيؤدي الى رفع كلفة الانتاج. وهذا يعني انّ على الصناعي والتاجر، إمّا الرضوخ لمبدأ خفض ارباحه، او رفع اسعار السلع للمحافظة على نسب الارباح.

وفي الحالتين هناك مشكلة، إذ انّ رفع الاسعار يعني زيادة الاعباء على المواطنين، في حين انّ خفض نسَب الارباح قد يساهم في زيادة الضغوطات، وربما الافلاسات في المؤسسات التي كانت تواجه قبل الأزمة ضغوطات بسبب تراجع الحركة الاقتصادية بشكل عام.

ومن هنا يقول رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة محمد شقير لـ«الجمهورية» انّ «البلد موجود منذ فترة طويلة في النفق، لكنّ المهم ان نخرج الى الانفراج، وليس الى الكارثة الكبرى».