كتب الصحافي «مارك بيري» في صحيفة «ذا اميركا كونزرفاتيف» التقرير الآتي عن ازمة الرئيس الحريري في السعودية وتعامل الادارة الاميركية:
أتت جهود الأمير سلمان لبدء أزمة إقليمية بنتائج عكسية، ولكن دفعت الدراما بوزير الخارجية الاميركي إلى «الغليان».
إنّ حكاية إنجاز محمد بن سلمان البالغ من العمر 32 عاما، معقدة بعض الشيء، لكنها جديرة بأن تُروى. ففي وقت سابق من هذا الشهر، في 2 تشرين الثاني، تلقى رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، نجل عائلة الحريري الغنية (وابن رفيق الحريري الذي نال الكثير من الاحترام، والذي اغتيل في انفجار سيارة مفخخة في بيروت في العام 2005 في بيروت) اتصالا من مسؤول سعودي رفيع المستوى، طُلِبَ منه فيه السفر فورًا الى الرياض للقاء ولي العهد السعودي. ولم يستطع الحريري أن يرفض: إذ انه مواطن لبناني - سعودي مزدوج، وثروة عائلته (وتمويل حزبه السياسي اللبناني، حركة المستقبل) رهن السخاء السعودي. لذا، انطلق في سفره.
وفي اليوم التالي، طال انتظار الحريري لمدة أربع ساعات  ليلتقي بالأمير محمد بن سلمان، قبل أن يُقاد إلى القاعة التي كان موجوداً فيها ولي العهد، حيث أُمِرَ بقراءة بيان تلفزيوني يعلن فيه استقالته من منصب رئيس الوزراء اللبناني، ويوجه اللوم إلى إيران وعميلها اللبناني، حزب الله، للتآمر لزعزعة استقرار بلده ولقتله. وكان الموقف دراميا بامتياز، ولكن لم تكن التمثيلية مقنعة: إذ تحركت عيون الحريري بشكل يعبر عن عدم الراحة في خلال خطابه، كما لو كان يلتمس رضى أشخاص من وراء الكاميرا، على أنه يقوم بدوره تمامًا كما طُلِبَ منه. ثم ظهر الحريري فجأة في أبوظبي، حيث اجتمع بولي العهد الأمير محمد بن زايد آل نهيان، قبل أن يعود إلى الرياض، حيث طمأن اللبنانيين إلى أنه صادق باستقالته، وأن السعوديين لم يحتجزوه غصبًا، وأنه سيعود قريبًا إلى بيروت.
لكن لسوء حظ السعوديين، لم يصدقه أحد في لبنان.
وفي غضون ساعات من خطاب الحريري، تكهن مسؤولون في حركة المستقبل (السنية بأغلبيتها) بأن رئيس الوزراء كان محتجزا ضد إرادته، وأعربوا عن شكوكهم في طوعية استقالته، وعملوا على عودته. وبعد عدة ايام، قال الرئيس اللبناني ميشال عون (الماروني المسيحي) أنه يعتقد أنّ السعوديين «خطفوا» الحريري، بينما وصف حسن نصر الله، الزعيم الشيعي لحزب الله الموالي لايران، «استقالة الحريري» بـ«قرار فرضته السعودية». فبدأت لافتات تحمل عبارة «نريد استرجاع رئيس وزرائنا» تظهر في بيروت، فضلاً عن قمصان العدائين الذين شاركوا في ماراثون بيروت، حيث كُتِبَ «نجري من أجل الحريري».
فبات الحريري فجأة المثل الأعلى للبنان، ومشروع شهيد. أي في غضون أيام من استقالته، كان واضحا أن محاولة السعودية للوم حزب الله على «زعزعة استقرار لبنان» قد أتت بنتائج عكسية: جعلت إصرار محمد بن سلمان على أن يتخذ الحريري موقفا أكثر صرامة ضد إيران وحزب الله من فصائل لبنان المتشاجرة، حلفاء. في الواقع، قررت العامة في لبنان أنّ المتآمرين ضد لبنان ليسوا في طهران، بل في الرياض. ولكن لم يكن اللبنانيون الوحيدين الذين لم يصدقوا الموقف السعودي، ولا وزارة الخارجية الأميركية...
 

 تيلرسون تفاجأ بالخطوات السعودية ضد الحريري ووقف ضدها


وبحسب ما أكده ديبلوماسيون كبار في الشرق الاوسط لوكالة TAC، تفاجأ وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون، الذي كان يرافق الرئيس خلال جولته في آسيا في خلال إطلاق المبادرة السعودية، بهذه الخطوة،. وفي حين اتُهم تيلرسون فيما بعد بأنه «انسحب تماما» من الأزمة، قال لنا العديد من الديبلوماسيين الأميركيين السابقين والحاليين إن العكس هو الصحيح. بل قالوا إنّ تيلرسون فتح «مناقشات طويلة ومحددة» حول وضع الحريري مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في السابع من تشرين الثاني، بعد أن أمر القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى ديفيد ساترفيلد باستلام هذه القضية. وتحدث ساترفيلد مع مساعدي الحريري في بيروت، وطلب من كريستوفر هنزيل، القائم بأعمال بالولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية، الاجتماع مع الحريري في الرياض. أما في بيروت، فقامت السفيرة الاميركية اليزابيث ريتشارد في الوقت عينه بجمع معلومات حول الازمة من المسؤولين اللبنانيين، وبإرسالها الى واشنطن.
وتماشت ردة فعل تيلرسون الأولية على استقالة الحريري مع مقاربته الهادئة للأمور. إذ جمع الحقائق، وطلب المشورة، ونصح بالهدوء وحافظ على رباطة جأشه. أما وراء الكواليس،  فكان تيلرسون «يغلي». فتلك هي المرة الثانية في خلال ستة أشهر التي يتخذ فيها السعوديون مبادرة ديبلوماسية كبيرة دون إنذار الولايات المتحدة، وهو انتهاك لقاعدة «لا مفاجآت» غير المدونة، وهي الكياسة الأساسية بين كل الحلفاء المقربين. وجاءت المفاجأة الاولى في حزيران، عندما قطع السعوديون علاقاتهم مع قطر وفرضوا عليها حصاراً اقتصادياً. وأحرجت هذه الموجة ضد قطر الولايات المتحدة، وقسمت مجلس التعاون الخليجي، وحطمت الجهود الاميركية لتشكيل كتلة سنية موحدة ضد ايران. وكما كان الحال مع استقالة الحريري بخلفية سعودية، جاءت أزمة قطر من دون أي تحذير من السعوديين إلى أهم حليف لهم.
 

 علاقة صهر ترامب ومحمد بن سلمان الحميمية


وقال ديبلوماسي كبير في الشرق الاوسط تحدثت معه وكالة «TAC»، إنّ تيلرسون لم يغضب بسبب عدم إنذار السعودية الولايات المتحدة بخططها في لبنان فحسب، بل شك في أن البيت الابيض عرف خطة الحريري مسبقًا، لكن لم يتم إعلامه بها. كان المذنب هنا، على مثال أزمة قطر، جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي البالغ من العمر 36 عاما، الذي ينافس دوره الرسمي في البيت الأبيض - الشبيه بانهيال ألقاب جمة عليه - كل الألقاب التي تُعطى للملك السعودي: كبير مستشاري الرئيس، نائب مستشار الأمن القومي للاستراتيجية، والممثل الخاص للمفاوضات الدولية. والأهم من ذلك أن كوشنر قريب من محمد بن سلمان، الذي كان كوشنر قد اجتمع به (ظاهريًّا، لمناقشة عملية السلام الإسرائيلية -الفلسطينية)، خلال رحلة شبه سرية إلى المنطقة في نهاية شهر تشرين الأول.
وقال الديبلوماسي الكــبير في الشرق الاوسط لوكالة الأنباء «TAC» : «ليس كوشنر ومحمد بن سلمان مقربين فحسب، بل هما مقربان جداً». «ربما ثمة احتمال خارجي أنّ كوشنر تفاجأ مثله مثل تيلرسون بالخطوة المتعلقة بالحريري، ولكن لا أعتقد ذلك. لا يمكن تصور أن بن سلمان لم يخبر كوشنر بما كان يخطط له». لكن هذا الديبلوماسي عينه رفض الفكرة القائلة ان بن سلمان طلب موافقة كوشنر على المبادرة السعودية، وأن كوشنر»أعطاه الضوء الأخضر». وأضاف: «لا تسري الأمور بهذه الطريقة. أشك في أن السعوديين بحاجة إلى ضوء أخضر. لا يعتقدون انهم بحاجة الى إذن أي شخص للقيام بما يريدون، بل يعتبرون دعم كوشنر لهم من المسلّم به. وتشير لهم حساباتهم أنّ له نفوذا أكبر مع الرئيس من ريكس تيلرسون».
 

 غضب محمد بن سلمان من الحريري وزيارته لاميركا


في الحقيقة، يقول هذا الديبلوماسي انه لم يكن من المفترض على الولايات المتحدة أو تيلرسون أن يتفاجأا من الخطوة السعودية، أو من نفور ولي العهد من سعد الحريري. إذ كانت التوترات بين رئيس الوزراء اللبناني والسعوديين تتفاقم منذ منتصف شهر أيار، عندما وصل وفد من المصرفيين المدعومين من الحريري الى واشنطن للضغط على الكونغرس كي لا يفرض عقوبات صارمة جديدة على المؤسسات المالية اللبنانية المشتبه في ارتباطها بحزب الله. وقال المسؤولون اللبنانيون لأعضاء الكونغرس إن زيادة الضغوط التنظيمية ستضر القطاع المصرفي الهش في لبنان وتعرض استقراره المالي للخطر. وذهب الحريري بنفسه إلى واشنطن في تموز لدعم هذه الجهود. ونتيجة لذلك، خفض الكونغرس تأثير العقوبات المقترحة، خوفا من أن تؤدي أي محاولة لاستهداف حزب الله إلى تقويض الاقتصاد اللبناني الهش.
وقال الديبلوماسي عينه: «تلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير للسعوديين. فشعروا بالاشمئزاز. بالنسة لهم، كان الحريري يميل نحو الإيرانيين». وبحلول نهاية الصيف، عزم السعوديون على التخلص من رئيس الوزراء واستبداله بأخيه الأكبر، بهاء، المقيم في السعودية ومنافس سعد الذي أراد منذ فترة طويلة أن يأخذ محل أخيه كقائد حركة المستقبل. وقال مساعد كبير للرئيس اللبناني ميشال عون لمحافظي الولايات المتحدة في رسالة بالبريد الالكتروني: «كانت هذه مؤامرة بدأ تنفيذها منذ أشهر، إذ كان سعد قد رفض أن يخضع لخطة السعودية لمواجهة الإيرانيين. لذلك قرر الأمير محمد بن سلمان أن يجعله يدفع الثمن».
لكن لم يتخط الحريري  محمد بن سلمان فحسب، بل تخطى أيضا ثامر السبهان، وزير شؤون دولة الخليج في المملكة العربية السعودية، ومؤيد وفيّ لولي العهد السعودي. وفي النقاط الرئيسية في الأزمة، وحتى في خلال فترات صمت محمد بن سلمان، كان السبهان قد أصدر تهديدات ضد إيران وحزب الله، وسعد الحريري. وجاءت تصريحاته العلنية الصريحة في خضم أزمة الحريري في 7 تشرين الثاني، وكانت موجهة إلى رئيس الوزراء اللبناني.
 

 تيلرسون ودعم واضح للحريري والاستقرار


وقال السبهان في حديث الى قناة العربية السعودية: «سنعامل الحكومة في لبنان كدولة تعلن الحرب على السعودية بسبب عدوان حزب الله.» وكان هذا البيان مثيرًا للدهشة، وتم تفسيره في واشنطن كتهديد تحت عنوان «وإلا» للحريري - عليه الاستقالة من منصبه والانقياد للخط السعودي، «وإلّا». تكمن مشكلة السبهان والسعوديين في أنه كلما زاد تهّور كلامهم، كلما أصر اللبنانيون أكثر على موقفهم. وقال المسؤول المذكور: «خطأ السعوديين هو في التفكير أننا سنخضع. لم نخضع».
ولم يخضع ريكس تيلرسون هو أيضًا. وفي 10 تشرين الثاني، أصدرت وزارة الخارجية بيانا صحفيا تحت اسم تيلرسون («الوضع في لبنان») يدعم الحريري («نحن نحترم رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري كشريك قوي للولايات المتحدة»)، في الوقت عينه الذي وجهت فيه ضربة نحو إيران والسعوديين. وقال البيان: «إن الولايات المتحدة تحذر أي طرف داخل لبنان أو خارجه، يستخدم لبنان كمكان للصراعات بالوكالة أو بأي شكل يسهم في زعزعة الاستقرار في ذلك البلد».
 

 لقاء متوتر بين ساترفيلد والسبهان


وتبين أنّ 10 تشرين الثاني هي أهم لحظة في أزمة الحريري. إذ في اليوم الذي صدر فيه بيان تيلرسون، كان ديفيد ساترفيلد الذي عيّنه تيلرسون للاهتمام بهذه القضية قد اجتمع بثامر السبهان في وزارة الخارجية. وكان السبهان في واشنطن لعقد اجتماعات، من بينها اجتماع في البيت الأبيض. ووفقا للديبلوماسي الكبير عينه، لم يجر اجتماع ساترفيلد - السبهان على ما يرام. في الواقع، لا يعبر الوصف عن الواقع تماماً.
فقد صرح لنا سفير سابق تلقى تسجيلا  للاجتماع أنّ «الاجتماع كان قبيحاً وتواجهيّاً. أعلن ساترفيلد أنّ الولايات المتحدة لا تدعم المبادرة السعودية، واعتبر أن ما يفعله السعوديون هو زعزعة الاستقرار، وأراد أن يبقي سعد رئيسا للوزراء، ولم يكن ليدعم بهاء كبديل له». ويقول هذا الديبلوماسي الكبير إن ساترفيلد «رفض» محاولة السعودية لنقل قيادة حركة المستقبل إلى بهاء. واضاف: «أوضح ساترفيلد أنّ الولايات المتحدة لم تعتقد أن بهاء قادر على القيام بهذا الدور،» واضاف بعد ذلك رأيه الخاص به، «انه لا يمكن التنبؤ بأفعاله، وأنه كسول».
وفي الأيام التي أعقبت اجتماع ساترفيلد - السبهان، خفت حدة أزمة الحريري. إذ نكر الحريري أنه احتُجز ضد إرادته من قبل السعوديين، ووصل إلى باريس يوم السبت، حيث التقى بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ثم توجه إلى بيروت عبر القاهرة يوم الاربعاء. واعتُبرت عودته انتصارًا. وقد ظهر في عرض عسكري بمناسبة عيد استقلال وطنه، وتحدث مع الحشود التي كانت تهتف خارج منزله. فعل كل ذلك، لكنه لم يعدل عن قرار الرياض بالاستقالة من منصب رئيس الوزراء اللبناني. وقال الحريري: «قدمت استقالتي إلى الرئيس عون، وطلب مني تأجيل عرضها بهدف السماح بإجراء المزيد من المشاورات والمداولات، فوافقت».
 

 تيلرسون عالج الملف خلافاً لتوجهات صهر ترامب


البطل غير المتوقع في كل هذا قد يكون ريكس تيلرسون، الذي قام بهدوء برسم سياسة أميركية على خلاف وجهات نظر دونالد ترامب وصهره. لا تزال التفاصيل الدقيقة لكيفية إنجاح تيلرسون ذلك غير معروفة (يقول الديبلوماسي الكبير الذي تحدثنا معه «أعتقد أن تيلرسون أخبر ترامب بكل بساطة بما كان سيفعله، ثم نفذ الخطة»)، على الرغم من زيادة الصعوبات التي يواجهها، ومن انه لا يزال هدفا للمسؤولين السابقين والحاليين في وزارة الخارجية لفشله في ملء مكاتب وزارة الخارجية الأميركية، وأنه لا يزال يُشاع أنه سيتم استبداله، وأنه غير محبوب على نطاق واسع من قبل الصحفيين الذين يغطون أحداث وزارة الخارجية بسبب انفصاله (ورفضه لطلبات الصحافيين للسفر معه)، وأنه عرضة للتجاهل المنتظم في المجتمع الديبلوماسي بسبب أسلوبه وعلى الرغم من عمله الذي يُقال انه سيؤدي الى «زواله» في نطاق قضايا السياسة الخارجية.
 

 اي سياسة خارجية اميركية ستسود؟


والأهم من ذلك، تتعارض وجهات نظر تيلرسون بشكل حاد مع البيت الأبيض الذي أبدى استعدادا لإعطاء قيمة لمطالبات السعودية، ما يعني أنّ ما كان واضحا في حزيران، عندما جَزّأ السعوديون عمدا الجبهة السنية الموحدة للعالم العربي ضد إيران، أصبح أكثر وضوحا الآن في خضم أزمة الحريري. وقال الديبلوماسى الكبير الذى تحدثنا معه «إن الولايات المتحدة تستخدم سياستين خارجيتين في الشرق الاوسط. ثمة سياسة خارجية للبيت الأبيض في يد جاريد كوشنر وأخرى يتم تصميمها من قبل ريكس تيلرسون.» أي سياسة خارجية ستسود؟ أثار السؤال ضحك الديبلوماسي الكبير، وقال: «ليس من الصعب حقا معرفة ذلك». واضاف: «إن ريكس تيلرسون سيكون وزير دولة إلى أن يقرر عدم توليه هذا المنصب، أو إلى أن يتم طرده. لكن جاريد كوشنر سيكون على الأرجح صهر الرئيس إلى الابد».