كان تنظيم داعش في الحسابات الإيرانية وسيلة من وسائل تمدد النفوذ، ليس على قاعدة ترميم المجتمعات والدول العربية، بل بغاية تعميق الانقسامات والاستثمار فيها إلى أقصى الحدود
 

لم يعد سرا أن النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، وجد في تنظيم داعش سبيلا لتدعيم وجوده وتمدده، ولن يزيد على الحقيقة أن صح ما نقل عن قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي الجعفري، قبل أيام، عبر إقراره بهذه الحقيقة التي يعرف أي مواطن كان في دولة داعش المزعومة في العراق وسوريا، أنّ هذه “الدولة” ما كانت إلا سبيلا لعودة الميليشيات الإيرانية إلى مناطق نابذة لها، من دون أن نغيب حقيقة أن هذا التنظيم الهمجي، قتل من خصوم إيران وأعدائها ومن الثوار السوريين ضد نظام الأسد، عشرات الآلاف، وارتكب المجازر في البيئة العربية السنية وحصد عشرات الآلاف من أرواح العراقيين والسوريين المناهضين للمشروع الإيراني والآمنين، فيما لم تظهر شراسة هذا التنظيم القتالية لا ضد إيران، ولا ضد أذرعها في المنطقة العربية كما كان حال البيئة العربية السنّية التي نكّل بها واستبيحت لأنها ثارت على دكتاتورية النظام السوري، أو على رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي منذ عام 2013.

يستعرض قائد الحرس الثوري وأركانه هذه الأيام قوة ونفوذ إيران، لا بل قدرتها على تهديد أوروبا كما قال نائب قائد الحرس الثوري، إن صواريخه تصل إلى مسافة ألفي كيلومتر، والاستعراض الإيراني هذا يعكس في جانب منه قلقا من التطورات الإقليمية والدولية تجاه إيران ونفوذها في المنطقة، ومن جهة ثانية إبداء إيران استعدادها لتشريع نفوذها إقليميا ودوليا في ظل التسويات الجارية في سوريا. فقائد الحرس الثوري أكد بوضوح أن سلاح حزب الله ودوره هو شأن إيراني، من خلال توصيفه لمهماته المستقبلية في سوريا وفي مواجهة إسرائيل، مقوضا بذلك كل النقاش الدائر في بيروت عن سياسة “النأي بالنفس” التي اشترط رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري التزام حزب الله بها كمعبر لعودته عن موقف التريث من الاستقالة، كما كشف إلى حد بعيد أن السياسة الإيرانية لا تولي أي اهتمام بموقع رئاسة الجمهورية اللبنانية، بسبب عدم مراعاة محمد علي الجعفري لموقف رئيس الجمهورية الذي أكد على هذه السياسة.

الموقف الإيراني هذا يرتكز في أي تسوية مستقبلية على إستراتيجية تعميم نموذج حزب الله في المنطقة العربية، من خلال فرض ثنائية السلطة أو الدولة- الدويلة، أو الجيش- الميليشيا، عبر جعله شرطا أساسيا في كل تسوية إقليمية مقترحة، وتثبيت هذه الثنائية، من خلال حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وقوات الدفاع الوطني في سوريا، والحوثيين في اليمن. هذا الطموح الإيراني يفترض في جوهره تمديد الأزمات في هذه الدول، بل الإبقاء على السلطة في داخلها على توازنات خارجية، تحول دون قيام دولة وطنية يحكمها دستور، والإبقاء على صراع الهويات بأشكالها الطائفية والمذهبية والجهوية. ذلك أنّ المشروع الإيراني الذي يمثله الحرس الثوري لا يحمل في طياته أي رؤية لصوغ النفوذ على شرط الدولة، أو الشعب الواحد والموحد، ولا على رؤية تنطلق من أن الدولة ضرورة وجودية، ومكون ثابت ونموذج لا يمكن تجاوزه أو تقويضه في بناء أي استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي.

الهاجس الإيراني في المنطقة العربية إيراني بالدرجة الأولى، وهذا هو حال كل الدول الطامعة في المنطقة العربية، أي أنّها تنظر إلى المنطقة من زاوية مصالحها وحساباتها الوطنية أو القومية
الهاجس الإيراني في المنطقة العربية إيراني بالدرجة الأولى، وهذا هو حال كل الدول الطامعة في المنطقة العربية، أي أنّها تنظر إلى المنطقة من زاوية مصالحها وحساباتها الوطنية أو القومية، لكن المشكلة العربية مع السياسة الإيرانية، تتصل ببنية المشروع الإيراني، الذي كشف عن مضمونه وأدواته طيلة العقود الماضية. فإيران لا يستقيم دورها ونفوذها خارج أراضيها، إلا بزعزعة المجتمعات من خلال الاستثمار في البعد المذهبي، ذلك أن البنية الأيديولوجية التي يقوم عليها النظام في إيران ويبشر بها الحرس الثوري خارجها، تقوم على خصوصية مذهبية، نابذة لفكرة الولاء للدولة والوطن، وتجعل من الولاء للأيديولوجيا ورمزها المرشد علي خامنئي فوق كل الولاءات الوطنية أو القومية. وهي قد تأخذ شكلا يختلف حسب البيئات الاجتماعية والسياسية ولكنها واحدة في المضمون، فالقيادة الإيرانية استخدمت عنوان مقاومة إسرائيل، ليس في سياق تحقيق تحرير فلسطين، بقدر ما كان الهدف تجميع أوراق القوة لمشروعها في المنطقة العربية والعالم، وثمة فرق بين الأمرين، ذلك أن عنوان فلسطين والمقاومة هو في خدمة المشروع الإيراني، وليس المشروع الإيراني في خدمة مشروع تحرير فلسطين.

سعت إيران إلى محاولة تثبيت وجود لها على حدود إسرائيل أو داخل فلسطين، وهذا الهدف اقتضى في مرحلة معينة وبدعم سوري، القضاء على أي مقاومة في الميدان لا توالي إيران، كما حصل في لبنان بين عام 1985 وعام 1991. وهذا ما قامت به داخل فلسطين حين استثمرت وعمقت الانقسام الفلسطيني، فخونت ياسر عرفات، ومولت كل ما يمكن أن يفشل دوره كصاحب مشروع القرار الوطني المستقل، وأكملت نفس المنهج بعد رحيل عرفات عام 2004 ودائما كان الشعار دعم خيار المقاومة، فيما أثبت الواقع أن هذه السياسة كان هدفها المصالح الإيرانية أولا، وكانت النتيجة المزيد من تراجع القضية الفلسطينية والمقاومة من أجل حقوق الشعب الفلسطيني.

إيران تدخلت دعما لبشار الأسد ونظامه في سوريا، لكن استهداف إسرائيل لأهل غزة عام 2008 وما بعدها ورغم كل الدمار الذي طالها، لم ينتج غضبا إيرانيا من إسرائيل بقدر ما كان عليه الغضب الإيراني عندما جرى المس بالأسد في سوريا. وهذا يؤكد أن الأولوية للمشروع الإيراني الذي يجب أن تكون كل الأوراق السياسية والعسكرية في خدمته، أما إذا كانت القضية الفلسطينية هي المستهدفة، فإن الموقف الإيراني يتعامل مع ذلك الخطر الصهيوني بكثير من الهدوء، بل يتفادى أي مس مباشر به.

هكذا كان تنظيم داعش في الحسابات الإيرانية وسيلة من وسائل تمدد النفوذ، ليس على قاعدة ترميم المجتمعات والدول العربية، بل بغاية تعميق الانقسامات والاستثمار فيها إلى أقصى الحدود. فأن يخرج أمين عام حزب الله ليعلن انتصار محوره أي المحور الإيراني على تنظيم داعش، وبشكل مستفز، هو بذلك يمهد بل يستدعي مواجهة جديدة في المنطقة، فبادعائه أن إيران وميليشياتها في العراق وسوريا هي التي كانت صاحبة الدور الأساس والفعلي في القضاء على داعش، هو يضع كل العرب السنة في الخانة التي رسمها لتنظيم داعش، علما أن أحدا لا يستطيع أن يبرئ القيادة الإيرانية من المشاركة المباشرة وغير المباشرة لنشوء هذا التنظيم، ولا شك أنّ ما تكشفه الوثائق الاستخباراتية سيجعل من الدور الإيراني أكثر وضوحا مما قاله الجعفري نفسه حين تحدث عن الفائدة التي وفرها داعش لمشروع إيران في المنطقة العربية.

يبقى أنّ نصرالله بمحاولة وضعه عملية الانتصار على داعش في السلة الإيرانية، يعكس بمحاولته هذه جعل القضاء على داعش في سياق استكمال تمدد النفوذ الإيراني، وفي سياق الاصطدام مع المكون العربي السني الذي تريد إيران المزيد من تهميشه، انطلاقا من أن طبيعة المشروع الإيراني في بنيته الأيديولوجية المذهبية، باتت محكومة بالمحافظة على نفسه بالمزيد من الاستثمار بالخصوصيات في مواجهة أي مشروع جامع لن تكون إيران بأحسن الأحوال إلا طرفا فيه، بين أطراف عدة.

من داعش إلى المقاومة إلى الانتصار المزعوم على إسرائيل، إلى ادعاء التعارض بين مصالح إيران وما فعله داعش في بلاد العرب، ومن تقديس بشار الأسد إلى ادعاء المقاومة من أجل تحرير فلسطين من دون أي طلقة على إسرائيل، ومن الاستهانة بقتل مئات الآلاف من السوريين، وتهجير الملايين إلى ذرف الدموع على أطفال اليمن المظلومين، هي مشاهد إيرانية مستمرة تعبر عن استهانة واستكبار، بل استحمار يمهد للاستعمار ويرسخه على ما قال المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي.