يقود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قطار التسوية السورية إلى مكان ما لا نعرفه، وربما هو نفسه لا يعرفه. مهمة سيّد الكرملين أن يُخرج العزف من خنادق العسكر ويسير به نحو مسرح الدبلوماسية والتسويات. والتمرين في هذا الصدد قطع أشواطا كبيرة منذ ارتفاع أسوار مناطق خفض التوتر والإعلان المتعدد الهويات عن انتهاء داعش.
يقود بوتين ذلك القطار على سكة التفاهم الأخير الذي أفصح عنه البيان الأميركي- الروسي برعاية الزعيمين، الأميركي والروسي. والظاهر أن دينامية الحل تغرف من خطة واشنطن وموسكو كقاعدة صلبة يفترض لكافة أطراف الصراع التموضع حولها، وليس بالضرورة اتّباع حذافير ما أملته سطور بيان بوتين- ترامب الشهير المعلن من فيتنام. على هذا ينشط ركاب قطار تسوية على الإدلاء بدلوهم أملاً في التأثير على المآلات المجهولة التي يندفع نحوها قطار بوتين السريع.
يستدعي رجل روسيا القوي رأس النظام السوري على عجل، وحيداً، يجالسه لثلاث ساعات في سوتشي ليملي عليه قواعد السلوك التي يفرضها قطار التسوية. بدا أن توقيت ذلك الاستدعاء كان مقصوداً عشية اجتماع المعارضة في الرياض وقمة بوتين- أردوغان- روحاني في سوتشي. لا يملك رجل دمشق هامشا عريضا للمناورة، فلولا التدخل العسكري الروسي منذ سبتمبر 2015 لسقط النظام وزعيمه، وعليه فإن من أنقذ بشار الأسد يمتلك فرض تحديد مصيره.
تترعرع التسوية السورية على قاعدة الهيمنة العسكرية الروسية وغزارة نيرانها التي قلبت الوضع الميداني رأسا على عقب. كانت لحضور جنرالات الجيش الروسي في لقاء بوتين- الأسد رسالة لمن يهمه الأمر ومناسبة لتذكير من سهى عنهم بهذا الأمر. لا يبدو أن الأسد نسي ذلك، ولا يبدو أيضا أن طهران وأنقرة غافلتان عن تلك الحقيقة.
يودع بوتين رئيس النظام في دمشق، ليلتقي في اليوم التالي وفي نفس المدينة رئيسي تركيا وإيران. يعرف الرئيس الإيراني حسن روحاني أن رجل إيران “الأسطورة”، قاسم سليماني، هو من ذهب يستجدي بوتين تدخلا ينقذ الأسد من السقوط. كان في ذلك اعتراف من قلب نظام ولاية الفقيه بأن “مستشاري” إيران والميليشيات الشيعية التي جُمعت من أفغانستان والعراق ولبنان أخفقوا في رد الخطر عن نظام سوريا الحليف، وأن ما كان الأسد أعلنه عن “إعادة انتشار” وعن “سوريا المفيدة” ما هو إلا أعراض موت معلن.
ويدرك رجب طيب أردوغان أن نيران وغضب بوتين كانا أقوى من مغامرته في إسقاط طائرة روسية قيل إنها تجاوزت حدود بلاده، فكان أن أسمع بوتين حينها نظيره التركي أنه هذه المرة قد تجاوز كل الحدود.
غير أن بوتين المنتشي بانتصاراته والمزهوّ بإمساكه الكامل بزمام الأمور، يعرف تماما ما قد يغيب عن بال المتعجلين. أدرك الرجل منذ الأسابيع الأولى لحملته السورية أن انتصاراته الساحقة لا ترجع إلى تفوّقه كمهاجم شرس فقط، بل تعود بالأصل والأساس إلى غياب أي دفاع شرس.
صبّت روسيا نيرانها بصفتها دولة عظمى اشتغلت على إعداد قوتها لمنازلة الكبار، فما بالك حين تسقط الحمم على رؤوس الصغار. بالمقابل عملت الولايات المتحدة على منع أي ردّ نوعي حقيقي يواجه آلة الحرب التي تقودها موسكو. سبق للروس أن غزوا أفغانستان بغطرسة الجبابرة، وحين أرادت واشنطن غير ذلك لملم المتغطرسون خيبتهم وانسحبوا لتنهار دولتهم التي أعاد بوتين انتشالها قبل سنوات.
على هذا، يضع بوتين نصب عينيه تلك الذاكرة الكئيبة حين يقف وحيدا في مقصورة قيادة قطار التسوية الميمون. بارك الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بعقيدته همة الرئيس الروسي فواكبها وحماها وهيأ لها ظروف النجاح، فيما يأتي دونالد ترامب بحساباته ليبارك ورشة نظيره الروسي، لعل في ما زرعه منذ خريف 2015 ما يمكن قطف ثماره في مواسم الحصاد.
التزمت كافة الدول المعنية بالنزاع السوري بخريطة الطريق التي رسمت بين واشنطن وموسكو منذ اللقاء الشهير الذي جمع بوتين بأوباما على هامش قمة الأمم المتحدة في نيويورك قبل ساعات من انطلاق الطائرات القاذفة الروسية صوب سوريا. التزمت دول المنطقة الداعمة لفصائل المعارضة بمواصفات الأسلحة المسموح تمريرها للمقاتلين. غابت صواريخ أرض جو التي تسلى حاملوها في أفغانستان في تصيّد الطائرات السوفياتية عن “الصيادين” السوريين. تعددت المحرّمات التي شلّت أيدي المعارضة عن تهديد مركز البقاء للنظام السوري. أضحى ممنوعاً الاقتراب من دمشق، كما بات ممنوعاً الاقتراب من الساحل السوري. وعلى نحو عجائبي التزم الجميع بقواعد اللعبة الجديدة فغابت خطوط تماس وتعدّلت أشكال الاصطفافات.
يقود بوتين قطاره مع شركاء منهكين. إيران تراقب حصارها الذي يشتد عربيا بعد أن اشتد أميركيا، فيما تركيا التي هزّتها محاولة الانقلاب صيف عام 2016 وجدت حراكاً كرديا سوريا- عراقيا يهدد حصونها وثوابت أمنها الاستراتيجي. التقى بوتين بنظيريه التركي والإيراني متحصنا بفتوى من تلك الولايات المتحدة التي تزمجر ضد طهران ولا تبتسم لأنقرة. بدا أن تواطؤًا خبيثا يدور بين بوتين وترامب لنصب سقف مشترك فوق المنطقة يعيد تحجيم الانفلات الذي خيّل للولي الفقيه وسلطان تركيا أن باستطاعتهما المضي به.
تعمل الرياض على إعداد المعارضة لتكون ندّا اليوم لنظام دمشق اليوم وفق ظروف العالم اليوم. ستبقى المعارضة متمسكة بحل سياسي يستند على بيان جنيف لعام 2012، والقرارين 2118 و2254، لكن أحلاما كثيرة سقطت وانهارت طموحات. لن يكون بالإمكان إبعاد بشار الأسد، أقله وفق خريطة الطريق السابقة للمعارضة.
بات مصير الأسد مؤجلاً وبات مصير سوريا أهم للعواصم من مصير رجل دمشق. كانت ثورة السوريين سورية المنشأ والأصل، لكن حربهم هي مثل حرب اللبنانيين في ما بينهم على مدى 15 عاما (1975 – 1990)، هي حرب الآخرين على أرضهم. فأما وقد قرر الآخرون وقف حرب لبنان واخترعوا لذلك “طائفا”، فإن عواصم القرار، لا السوريين، تعد لسوريا طائفها.
يعرف بوتين أن قطاره ليس سوريا فقط. من داخل تلك المقصورات يتقرر مصير إيران المقبل. لم يكن الأمر كذلك حين نزل الوحي الدولي فأرخى سكينة على نيران الحرب في لبنان.
في خرائط بوتين وصفات لوقـف التمدد الإيراني في المنطقة. هذه شروط الرياض وشروط العرب التي نفخ بها بيانهم الأخير. وفي نفس تلك الخرائط إعادة قراءة لبرنامج طهران النووي والآخر المتعلق بالصاروخي الباليستي. هذه مطالب واشنطن وتل أبيب وبعض أوروبا. وفي هذه الخرائط ما هو مطلوب لإزالة الميليشيات التي نبتت كالفطر في العراق وتنتصب علّة على سِلم لبنان واستقراره. ورغم جسامة السعي الروسي يبدو بوتين واثق الخطوة يمشي ملكا.
قبل قرن من الزمن جلس مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي بهدوء في غياب أي جلبة محلية فرسموا العالم الذي تعيشه المنطقة مذاك. داخل خرائط الرجلين كشفت ثورة البولشفيين عن تواطؤ لروسيا القيصرية أخفته وثائق ذلك الزمان. يبدو أن قيصر هذا الزمن يفخر بأنه يحتكر الرسم والحفر، فيما تتشارك عواصم المنطقة في تزويده بكل متطلبات تلك الجراحة.
سيستفيق السوريون، كل السوريين، يوماً على حقيقة أنهم، حين أراد الكبار، دفنوا قتلاهم ومدنهم وأحلامهم ليستعيدوا أشلاء وطن.