مع وصول سعد الحريري إلى بيروت عشية الاحتفالات بعيد الاستقلال، كما سبق أن أعلن من باريس، يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحرز نصرا دبلوماسيا في ملف الأزمة اللبنانية ترسخ أكثر مع رئيس الحكومة سعد الحريري من بيروت تريثه في المضي رسميا باستقالته تجاوبا مع طلب الرئيس ميشال عون.
لكن النتيجة الإيجابية التي حققتها باريس في ملف أزمة استقالة سعد الحريري، التي أعلن عنها من الرياض قبل حوالي ثلاثة أسابع، سيبقى تأثيرها قصير المدى ولا يعني أن فرنسا حققت اختراقا في عمق الاستعصاء في المشهد اللبناني الذي يلخص عموم المشهد في المنطقة وما يجري في العراق واليمن وغيرهما.
وتتمثل أضلع الأزمة في لبنان في حزب الله، وحلفائه، الذين حولوا لبنان إلى حامية إيرانية، وفي مواجهة هذا الحلف نجد تيار المستقبل، ورئيسه سعد الحريري والأحزاب المعارضة لسياسات حزب الله من ذلك حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع. ويعتبر المراقبون أن الضلع الأول في الأزمة يمثل إيران فيما يمثل الضلع الثاني السعودية.
ويضع التعقيد في المشهد اللبناني أي متدخل على خط الأزمة في موقف صعب، وخصوصا يحاول هذا الطرف أن يكون محايدا وصديقا للطرفين. لكن، في ظل هذا الوضع لا مجال للحياد إن كان ماكرون يرغب في أن يحقق تقدما أكبر في لبنان وفي المنطقة عموما، حيث يبحث عن استعادة التواجد الفرنسي في الشرق الأوسط والذي تراجع منذ حرب الخليج.
وتزج مباردة ماكرون في قلب صراع بين إيران التي تبحث عن التمدد في المنطقة على حساب أمن دول واستقرار مجتمعاتها من جهة والسعودية التي تقود مساعي هذه الدول لحماية أمنها من المخططات الإيرانية، من جهة أخرى؛ ومن هنا، يرى المراقبون أن مبادرة ماكرون، التي بدأت بدعوة رئيس الحريري إلى باريس ولقائه الذي انتهى بإعلان الحريري عودته إلى بيروت، ستمثل اختبارا لسياسة حياد فرنسية يتشكك منتقدوها في إمكانية استمرارها.
ورغم أن هذه الخطوة خففت من حدة التوترات الإقليمية التي شهدت ارتفاعا كبيرا بعد استقالة الحريري في الرابع من نوفمبر الجاري، إلا أنها كشفت عن مدى صعوبة موقف ماكرون المعلن بعدم الانحياز لطرف على حساب آخر في الشرق الأوسط.
مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تمثل اختبارا لسياسة حياد فرنسية يتشكك منتقدوها في إمكانية استمرارها
ونقلت وكالة فرانس برس عن دبلوماسي أوروبي، لم يشأ نشر اسمه، في سياق الحديث عن سياسات زعيم حليف لدولته أن “ماكرون عرّض نفسه للخطر في لبنان. الأمر أشبه بساعة الامتحان بالنسبة إليه“. فقد وصل الحريري إلى فرنسا السبت بعد أيام من إعلان استقالته من الرياض واتهام إيران وجماعة حزب الله بزرع الفتن. ورد حزب الله وحليفه الرئيس اللبناني ميشال عون، ومعهما إيران، على ما قاله الحريري بزعم أن “استقالته جاءت بضغط من السعودية”.
ووصل الحريري إلى بيروت الثلاثاء للمشاركة في الاحتفالات بذكرى انتهاء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1943، لينتهي بذلك الجدل الذي أثارته استقالة الحريري والقلاقل التي أثارها الخصوم بشأن طبيعة تواجده في الرياض، لكن صدى هذه الأزمة، وتحديدا الدور الذي لعبه ماكرون، لم ينته في باريس.
وينشط في كواليس السياسة الفرنسية الحديث عن هذه المبادرة في علاقتها بسياسة ماكرون الذي، منذ توليه الرئاسة، لم يدخر وقتا للتعبير عن توجهاته في السياسة الداخلية كما الخارجية. ويرى خبراء أن مناورة ماكرون التي جاءت في أعقاب زيارته المفاجئة إلى السعودية، عقب إعلان استقالة الحريري، وقد كان الرئيس الفرنسي حينها متواجدا في الإمارات حيث شارك في افتتاح متحف اللوفر أبوظبي، ولقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بالإضافة إلى سلسلة من المكالمات فاجأت وزارة الخارجية وسلطت الضوء على نزعته للالتفاف على مؤسسات الدولة لتأكيد وضعه في مقعد القيادة مثل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي.
وعلق ستيفان مالزاني المحاضر بجامعة سيانس بو في باريس، على مبادرة ماكرون لحل أزمة استقالة الحريري قائلا “حتى الآن هو نصر رمزي للدبلوماسية الفرنسية أتاح إمكانية خفض التوترات”، لكنه أضاف أنها “مقامرة خطرة” قد تثير غضب كل الأطراف.
وكان ماكرون شرح أهداف سياسته الخارجية في المنطقة في أول خطاب يلقيه أمام رجال السلك الدبلوماسي في أغسطس. وبيّن أنه يريد أن تحافظ فرنسا على موقف متوازن. وقال في الخطاب “لن نحقق هدفنا في مكافحة الإرهاب إلا إذا لم نرتكب الخطأ الذي يفرض علينا الاختيار بين الشيعة والسنة وإلى حد ما يجبرنا على أن نحصر أنفسنا في معسكر واحد“. غير أن بعض الدبلوماسيين الفرنسيين يقولون إن ماكرون سيكتشف أن من الصعب استرضاء الجميع.
وقال مسؤول لبناني كبير مشترطا عدم نشر اسمه “هذه الوساطة مقدمة لدور سياسي فرنسي جديد في لبنان… ومحاولة فرنسية لإيجاد موطئ قدم للانطلاق من لبنان إلى المنطقة”. وأضاف “لكن الفرنسيين سيواجهون صعوبات في ظل وجود اللاعبين الكبار (الولايات المتحدة وروسيا وإيران والسعودية) في المنطقة”.
لفرنسا تاريخ طويل من الروابط التجارية والسياسية والاجتماعية مع إيران، حتى أن آية الله الخميني عاش في منفاه قرب باريس في عام 1979، ومع ذلك يقال إنها كانت أكثر القوى العالمية الست تشددا في التفاوض على الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
باريس قلقة من نزعة الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط ومن برنامج الصواريخ الباليستية
وفي عهد الرئيسين نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند انحاز الأول لقطر والثاني للسعودية وحدث تحول تمثل في التشدد مع طهران. ومنذ الاتفاق سارعت باريس إلى إعادة العلاقات التجارية وتم توقيع صفقات مع شركة إيرباص لصناعة الطائرات وشركة توتال عملاق صناعة النفط وشركتي بيجو ورينو للسيارات.
أزعج هذا التقارب الرياض التي تمثل شريكا استراتيجيا لباريس وأحد أبرز المشترين للأسلحة الفرنسية. وقال دبلوماسي فرنسي طلب عدم نشر اسمه “اضطررنا إلى طمأنة السعوديين وموازنة الأمور”.
وتشعر طهران بالانزعاج لتحسن العلاقات الفرنسية مع السعودية، بل ورأت في مواقف باريس الأخيرة، خصوصا المتعلقة باحترام الاتفاق النووي ومحاربة الإرهاب، انحيازا للرياض رغم أنها تتماهى مع آراء المجتمع الدولي ومقارباته للسياسة الإيرانية في الشرق الأوسط.
وحذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إيران من “إغراءات الهيمنة”. وقال إن بلاده “قلقة من نزعة الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط ومن برنامج الصواريخ الباليستية”. وفي سياق متصل، قال ماكرون إن على إيران أن توضح ما يجري في برنامجها الصاروخي الذي “يبدو أنه يسير بلا ضوابط”.
ورد علي أكبر ولايتي، أحد كبار مستشاري المرشد الأعلى، على ماكرون بألا يتدخل في الشؤون الإيرانية. ووصل الأمر إلى حد تأجيل لودريان لزيارة مزمعة إلى طهران وتراجع الحديث عن احتمال قيام ماكرون بزيارة إيران العام المقبل.
وكانت الخارجية الفرنسية أعلنت عن زيارة مرتقبة للودريان إلى طهران سيمهد من خلالها الطريق لزيارة أخرى يمكن أن يقوم بها الرئيس الفرنسي في وقت لاحق، وكانت ستكون أول زيارة يقوم بها رئيس فرنسي لإيران منذ العام 1971. ورد دبلوماسي فرنسي على إمكانية إلغاء الزيارة بقوله إن “الحديث مع كل الأطراف مسعى نبيل، لكن هذه السياسة ستفشل إذا لم يتوجه لودريان وماكرون إلى طهران، فمصداقيتنا تتوقف على ذلك“.
وانتقد بعض الساسة المتشددين في إيران الرئيس حسن روحاني لمحاولة تقوية العلاقات مع فرنسا، قائلين إن الأوروبيين لن يعرضوا مصالحهم للخطر في مواجهة الضغط الأميركي. وقال مسؤول إيراني كبير إن سياسة التوازن التي يتبعها ماكرون تبث إشارات متباينة.
وقال المسؤول “هو يتحدث عن الحد من النشاط الصاروخي الدفاعي الإيراني وينتقد سياسة إيران الإقليمية وبعد ذلك يريد توثيق العلاقات؟“. وأضاف “على فرنسا أن تعلن بوضوح إلى أي جانب تقف… نحن نود توسيع علاقاتنا لكن باريس تبث إشارات متباينة ولا يمكن الوثوق بها”.
ويتبنى الرئيس الفرنسي القادم من عالم الاقتصاد سياسة التكتلات والعلاقات الاتحادية الوثيقة ويؤمن بمنطق المصالح والحسابات الذي دفعه نحو تسريع عجلة التدخل الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط بعد أن ظل يشهد نكوصا سنة بعد أخرى، لكن العودة التي يسعى إليها ماكرون تحتاج قراءة جيدة للواقع في المنطقة وتطوراتها ليحدد الكفة التي عليه أن يميل إليها، لأن سياسة إمساك العصا من الوسط في المرحلة الراهنة ستفقده الطرفين.