طرحت إجتماعات الجامعة العربية الأخيرة إشكالية سياسية وعقائدية تاريخية عمرها من عمر ولادة لبنان في بدايات القرن العشرين.
إشكالية تدغدغ عواطف وعقول اللبنانيين وجعلتهم في إنقسام عامودي منذ فجر تاريخ لبنان وهي كيفية التعاطي مع المحيط العربي وتداعيات ذلك على هوية لبنان القومية.
وإن كان لبنان ككيان تأسس نتاج أفكار مسيحية خالصة إلا أن العلاقة بين جناحيه المسلم والمسيحي شاءت أن ترقى لمستوى التصالح والرضى بالعيش المشترك داخل جغرافيا واحدة وجاءت هذه النتيجة بعد حرب أهلية ضروس كان الصراع على هوية لبنان أحد أبرز أسبابها.
كان الشعب المسلم في لبنان يحن للوحدة العربية مع سوريا الطبيعية ويرفضون فكرة الأوطان القومية وكان ولاؤهم عربيا وجاء على حساب هويتهم الوطنية وهذا ما جعلهم يدفعون الثمن بين فترة الأربعينات والتسعينات حيث كان دورهم رمزيا فقط في النظام اللبناني مقابل إحتكار الموارنة لمعظم الصلاحيات ولو أن التفاوت داخل شرائح المسلمين كانت مختلفة حيث أن وضع السنة كان أفضلا من الشيعة إلا أنه بالمحصلة العامة كان هناك شعور إسلامي بالغبن والظلم جعلهم يتمسكون أكثر بمحيطهم العربي ولم يكن لديهم أي مانع في إستغلال التواجد الفلسطيني داخل لبنان لتغيير قواعد اللعبة.
إقرأ أيضًا: نفق مظلم يدخله لبنان بعد إستقالة الحريري
هذا التطرف الإسلامي قابله تطرف مسيحي يرى بالعرق اللبناني وريث لسلالة الفينيقيين وأن لا رابط دم بين اللبناني والعربي وبالتالي فإن اللبنانية هي قضية شعب وأمة ووطن لها أسطورتها التاريخية المجيدة على طريقة السرديات الفارسية واليونانية والرومانية، لذلك تنمو في أوساط المسيحيين نخبا وعامة وسياسيين قيم الحرية والسيادة والإستقلال ويرون بلبنان وديعة المسيح التي يجب الحفاظ عليها وصونها من "دنس" الخارج أي الإستقلال عن التركي كرمز للخلافة الإسلامية والعربي كرمز لمشروع العروبة.
وهذه الأفكار المسيحية تطرفت جدا إبان الحرب الأهلية عندما وقف العرب مع الفلسطينيين ووضعوا أنفسهم في مكان الداعم لمشاريع التوطين وطرد المسيحيين من لبنان .
منذ تلك اللحظة تشيطنت العروبة بنظر مسيحيي لبنان أو فينيقييه وأصبح كل مسيحي ينادي بالعروبة هو خائن وعميل ويقابله في ذلك عند المسلمين من ينادي بأطروحات كيانية ووطنية خالصة.
جاء إتفاق الطائف أخيرا لينتشل المسيحيين من مشاريع الإنعزال وليجبر المسلمين على إحترام وطنهم ووطنيتهم فكان لبنان الوطن النهائي لكل بنيه والعربي الهوية لا ذو الوجه العربي.
أما اليوم فشيء آخر يحصل ويتغير، بالأمس فقط أطل السيد حسن نصر الله ليستهزء بالعرب علنا ويقول: "ماذا لدى العرب ليتفاخروا به عن باقي الأمم؟" والسيد نصر الله هو وريث سلالة الأفكار الإسلامية والوحدوية مع العرب والعروبة وهو أكثر من يعبر عن هذا الشق من النستولوجيا الإسلامية الطامحة للوحدة وكسر الحدود.
إقرأ أيضًا: عزل حزب الله سيقويه
قبله أقدم تيار المستقبل على رفع أقسى شعار يميني تطرفي وهو: "لبنان أولا" وقد لامه السنة قبل الشيعة على هذا الشعار وشكل بما لا يحمل الشك قفزة نوعية نحو تكريس المفاهيم الكيانية للأطروحات السياسية لأحزاب لبنان خصوصا الإسلامية منها.
بالمقابل، نجد اليوم أن أكثر من يراهن وينادي بالعلاقات مع العرب وحسن الجوار هم يمين الحرب الأهلية كالكتائب والقوات اللبنانية والأحرار والنخب التي تدور في فلكهم.
بالطبع، تيار المستقبل لا زال يتمسك بهذه الأدبيات لكن نقطة البحث عن القفزات الضوئية لمعسكري اليمين واليسار، فصحيح أن حزب الله لا يعنيه اليوم هذا المفهوم من العروبة وينافح عن الوطنية كمفهوم وتعريف خاص به يختلف عن تعاريف أخرى لأحزاب أخرى وتكرس هذا الشيء بعد التحالف مع الجنرال ميشال عون وقيام حلف الأقليات إلا أنه مع هذا لا زال يؤمن بمفهوم الأمة الإسلامية لا الأمة العربية على المدى البعيد، أما في المدى القريب فهو يبدو اليوم أنه متمسك بشعارات اليمين لناحية شيطنة العرب والعروبة.
بالمقابل، يغالي بعض اليمين القديم في ذهابه وإتكاله على مشروع عربي لم يبصر النور بعد ولم يعد يستفزه شعارات العروبة بل إن الدكتور سمير جعجع بدأ يجادل حزب الله في شعارات العروبة ضد إيران ويدعوه إليها.
لذلك ، تنقلب الأدوار اليوم في زمن صراع الهويات والإيديولوجيات وتتغير المصالح والمفاهيم لكن يبقى هذا الجدال "الجميل" بين فينيقيي وعروبيي لبنان مستمر حتى يصل الشرق إلى شاطىء الأمان وتبقى ملائكته سائدة فيه بعد طرد الشياطين.