أظهرت الأزمة السياسية الحالية أنّ الإقتصاد اللبناني يعيش على إيقاع التطوّرات السياسية والعسكرية في المنطقة. وأدّت إستقالةُ الحريري وما عقبها من تصاريح إلى وضعِ لبنان بمواجهةٍ سياسية مع المملكة العربية السعودية قد تكون حصيلتُها عقوباتٍ على لبنان. فهل يُمكن للبنان البحثُ عن أسواق جديدة في حال طُبّقت هذه العقوبات وهل يُمكن جذبُ إستثمارات؟ بلغت صادرات لبنان في العام 2016، 2.98 مليار دولار أميركي وشملت (ترتيب بحسب القيمة المُصدّرة) اللؤلؤ الطبيعي أو المستزرع، الأحجار الكريمة أو شبه الكريمة، المعادن الثمينة والمعادن، الآلات، الأجهزة الميكانيكية، الغلايات، الأدوات الكهربائية، البلاستيك ومشتقاته، الزيوت الأساسية، العطور ومستحضرات التجميل، الخضار والفواكه والمكسرات أو أجزاء أخرى من النباتات المُحضّرة، مستحضرات غذائية متنوّعة، الكتب المطبوعة، الصحف، الصور، النحاس ومُشتقاته، السكّريات والحلويات، المشروبات الروحية والخل، الأدوية، الحديد والفولاذ، الألومينيوم...
وتتوزّع البلدان المُستورِدة لهذه البضائع على الشكل التالي (أرقام المركز الدولي للتجارة -2016): جنوب أفريقيا (21.11%)، السعودية (8.96%)، الإمارات (8.02%)، سوريا (6.68%)، العراق (5.43%)، الأردن (3.35%)، سويسرا (3.16%)، الكويت (2.54%)، قطر (2.54%)، تركيا (2.40%)، ألمانيا (2.08%)، مصر (1.95%)، الولايات المُتحدة الأميركية (1.82%)... وتهدف هذه اللائحة الطويلة إلى إظهار الخلل في عدم الإستفادة من الأسواق المفتوحة أمام البضائع والخدمات اللبنانية.
السوق الأميركية
الولايات المُتحدة الأميركية هي أوّل دولة إقتصادياً في العالم مع إقتصاد يوازي ثلثَ الإقتصاد العالمي. وتُعدّ السوق الأميركية من أكبر الأسواق الإستهلاكية في العالم مع أكثر من 304 ملايين شخص (2008) ما يجعل من الولايات المُتحدة الأميركية ثالث بلد في العالم من ناحية عدد السكان خلف الصين والهند.
وتبلغ نسبة النموّ الديموغرافي فيها 0.9% سنوياً ما يعني أنه وبحلول العام 2050، سيكون عددُ سكان الولايات المُتحدة الأميركية 420 مليون شخص. وما يُميّز الشعب الأميركي تنوّعه العرقي ممّا يجعل عاداته الإستهلاكية مُتنوّعة وبالتالي هو سوق محتملة لبضائع غالبية دول العالم.
وعلى الرغم من هذا التنوّع في الإستهلاك، هناك عدد من الخصائص المُشترَكة للمستهلك الأميركي مهما كانت أصوله والتي يجب معرفتها وعلى رأسها حساسية المُستهلك الأميركي على الخدمات التي ترافق البضائع والسلع. من هذا المُنطلق وفي ظلّ منافسة شرسة يضمنها القانونُ الأميركي، تعمد الشركات الأميركية إلى توفير مستوى عالٍ من هذه الخدمات وذلك بهدف التميّز عن نظيراتها الخارجية.
ومن هذه الخدمات يُمكن ذكر إسترجاع البضائع التي تحوي عيوباً، التوصيل المجاني للبضائع، برامج ولاء الزبائن، الهدايا التي ترافق البضائع... وغيرها. ومن أكثر البضائع المُستهلَكة الأدوات الإلكترونية، التلفونات، الألعاب، السيارات، الأدوية، الألبسة، الطعام، الخدمات المصرفية، المطاعم...
والمُلفت في هذه السوق أنّ المُستهلك يشتري من خلال قروض حيث تُثبت البياناتُ التاريخية ما بين العامين 2001 و2006 أنّ نسبة الإستدانة للأُسر إرتفعت من 100% إلى 120% من الدخل الأُسري مع العلم أنّ دخل الفرد في الولايات المُتحدة الأميركية عالٍ جداً ويبلغ
58 ألف دولار أميركي (2016).
وبالتالي تظهر إلى العلن أهمية هذه السوق نسبة للأسواق الأخرى كالسوق الروسي (8700 دولار أميركي للفرد)، أو المصري (3500 د.أ)، أو الهندي (1600 د.أ)، أو الصيني (8100 د.أ)...
على لبنان الإهتمام بهذه السوق لأسباب عدّة على رأسها القدرة الإستهلاكية، الثبات في الإستهلاك ولكنّ الأهم هو الرغبة الأميركية في مساعدة لبنان من خلال المجلس الأميركي – اللبناني المُشترَك والذي تنصّ مهامُه على تحديد الإجراءات التي تزيد من التبادل التجاري بين البلدين. وهذا الأمر يفرض على لبنان القيام بعدد من الأمور التي يتمّ من خلالها تطبيق حماية الملكية الفكرية خصوصاً في ما يتعلّق بالمنتجات الرقمية الأميركية.
وهذا الأمر سيؤدّي حتماً إلى فتح تبادل السوق الحرّة بالكامل بين الولايات المُتحدة الأميركية ولبنان على مصراعيها ما يعني أنه وبتكامل الإقتصادَين (لا منافسة فعليّة على البضائع) يُمكن للبنان مضاعفة صادراته إلى الولايات المُـتحدة الأميركية في فترة لا تتعدّى السنة من بدء تطبيق الإجراءات.
وقد قمنا بمقارنة بين البضائع التي يُصدّرها لبنان إلى الخليج العربي وتلك التي يُصدّرها إلى الولايات المُتّحدة الأميركية ووجدنا أنها البضائع نفسها مع فارق بالحجم المُصدّر لكل نوع. هذا يعني أنه وفي حال كانت هناك عقوبات إقتصادية خليجية على لبنان (وهذا ما لا نعتقده)، ستكون السوق الأميركية إحدى البدائل للسوق الخليجية.
السوق الأوروبية
السوق الأوروبية هي سوق مفتوحة للبضائع اللبنانية بحكم معاهدة الشراكة بين لبنان والإتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك نرى أنّ العجز في الميزان التجاري فاضح حيث يستورد لبنان من الإتّحاد بقيمة 7.5 مليارات دولار أميركي ويُصدّر إليه بقيمة 335 مليون دولار أميركي (أرقام العام 2016) ويعود السبب إلى ضعف الأجهزة الحكومية في تخطّي التعقيدات العملية والمُتمثّلة بمبدأ المُعاملة بالمثل.
ومن أهم ما يُصدّره لبنان إلى الإتحاد الأوروبي: الآلات، الأجهزة الميكانيكية، الغلايات (10.7%)، الخضار والفواكه والمكسّرات أو أجزاء أخرى من النباتات المُحضّرة (7.6%)، النحاس ومُشتقاته (6.8%)، الرصاص ومُشتقاته (5.5%)، المواد الكيميائية غير العضوية؛ المركبات العضوية أو غير العضوية من المعادن النادرة، من الأرض النادرة (5.3%)...
وعلى مثال السوق الأميركية، تُعدّ السوق الأوروبية سوقاً ضخمة وناضجة مع أكثر من 400 مليون مُستهلك وقدرة شرائية عالية نابعة من متوسّط دخلٍ فرديٍّ عالٍ (25500 دولار أميركي - 2016) مع مستويات هائلة في اللوكسمبورغ (103000 د.أ)، إيرلندا (63000 د.أ)... من هذا المُنطلق نرى أنّ هناك ضرورة قصوى للبنان بالإهتمام بهذه السوق وتسخير كل القوى الحكومية اللبنانية بهدف تدعيم الصادرات إلى هذه السوق من خلال لوبي ديبلوماسي ولكن أيضاً عبر العمل على جعل البضائع اللبنانية على مستوى المعايير الأوروبية والتي غالباً ما تكون العائق الحقيقي أمام البضائع اللبنانية لعدم دخولها السوق الأوروبية.
الإستثمارات تبقى عقبة رئيسة
إننا إذ نرى أنّ مُشكلة الإقتصاد اللبناني الأولى تكمن في ضعف الإستثمارات في الماكينة الإقتصادية، نرى أنّ تحرير قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص ودعم القطاعات الإنتاجية لتُصبح على مستوى عالٍ من التنافسية هي الإجراء الأول الواجب على الدولة إتّخاذُه. ثم يأتي ثانياً تخفيف العجز في الميزان التجاري والذي يُعتبر سبباً رئيسياً للعجز في ميزان المدفوعات والذي يؤثر بدوره على الليرة اللبنانية.
من هذا المُنطلق، نرى أنّ الظروف الجيوسياسية والتعاطف الدولي مع لبنان مؤاتية للقيام بحراك ديبلوماسي واسع بهدف تدعيم الصادرات اللبنانية وجذب الإستثمارات التي قدّ تؤدّي إلى شراكة فعلية مع شركات أجنبية تسمح من خلالها بتصنيع سلع وبضائع محلّياً بهدف تصديرها إلى أسواق إقليمية أخرى مثل السوق الأفريقية التي أخذت بالنهوض إستهلاكياً منذ عدة سنوات. كما أنّ إهتمام الشركات العالمية بإعادة إعمار سوريا قد يجعل من لبنان منصّةً فعليّة لهذه الشركات العالمية.