لم تخرس الكلمة الحرة في يومٍ من الأيام، من اليوم الذي تجرّع فيه سقراط كأس السّم في سجنه، ومن اليوم الذي قال فيه أبو ذرّ الغفاري لمعاوية بن أبي سفيان: "لا تقل عن المال الذي بين يديك مال الله، فهو مالُ المسلمين"، ولاقى بعد ذلك ما لاقاه، ومن يوم قال الصحافي الساخر اسكندر رياشي للرئيس بشارة الخوري عندما أتى بمجلس نيابي على هواه عام ١٩٤٧: "مجلس الخمسة عشر رأسمالي، والأربعين من أذنابهم"، ويوم كتب جورج نقاش بوجه الرئيس كميل شمعون:"ثمّة عقيدة سياسية جديدة تُعرض على اللبنانيين خلال الشهور الثمانية الأخيرة: إن لم تكن شمعونياً، فهذا يعني أنّك خائن أو سوري-بلشفي"، ومن اليوم الذي اغتيل فيه الصحافي ذي الميول اليسارية نسيب المتني، صاحب اليومية المعارضة "التلغراف"، ورئيس تحريرها المعروف بانتقاداته الحادة لسياسة شمعون الخارجية وللفساد في عهده، وكان ذلك في السابع من أيار عام ١٩٥٨، وكان اغتياله الشرارة الأولى التي أشعلت ثورة ذلك العام، وعندما عنونت صحيفة "العمل" الكتائبية افتتاحيتها خريف العام ١٩٦٥ "ماركس على الأبواب"، أجاب جبران حايك في افتتاحية المسائية "لسان الحال": ماركس داخل الحدود، يتجسّد في الفقر في بعض المناطق اللبنانية، في التفاوت الكبير بين أغنياء وفقراء، في البطالة والتّشرد، يضاعف ذلك فشل الحكومة وإهمالها وقصر نظرها، وختم بمناشدة المسؤولين تدارك تلك المشكلات قبل أن يغتال "ماركس الداخل" الديمقراطية بالتعاون مع " ماركس السوري".
إقرأ أيضًا: من رئاسة كميل شمعون حتى رئاسة ميشال عون ... لبنان فوق صفيح التحالفات الساخن
تغلّبت الكلمة دائماً ولم تيأس ولم يُرهبها يوماً السيف المسلّط فوق رقبتها، ولم تمنعها عمليات الاغتيال والتّصفية الجسدية من الوقوف في وجه الطغاة، لم يردعها نزوة رئيس أو حماقة رئيس وزراء أو فساد وزير، أو تسلُّط جهاز أمني، صحيح أنّ الكلفة كانت باهظة في لبنان على مدى عقودٍ طويلة، وقد تعمّدت بالدم على يد أنظمة القمع المختلفة، من نسيب المتني وكامل مروة إلى سمير قصير وجبران تويني، دون أن ننسى غسان كنفاني وسليم اللوزي ورياض طه وسواهم، ويتساءل فواز طرابلسي بعد سرد هذه اللائحة الطويلة: ألم يكن فرج الله الحلو الذي ذُوّبت جثّتُه في الحوامض في سجن دمشقي أيام الوحدة المصرية-السورية كاتباً وصحافياّ؟
من حمد الله ونعمه، أنّ الصحافي أحمد الايوبي والإعلامي مارسيل غانم ما زالا في منأى عن الإغتيال والتصفية الجسدية، وهما بين يدي القضاء، وهذه نعمة قد نتحسّر عليها في قادم الأيام، إن لم تتصدى كل القوى الحيّة والديمقراطية لموجة ظلامية تجعلنا نذكر الوزير السابق عدنان عضوم بكل خير.