تحل بعد ثلاث سنوات الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير، وغالباً ما تعرض الاستقرار اللبناني للاهتزاز عند نشوب العواصف الإقليمية. وفي استثناء للقاعدة السائدة لم يمتد الحريق السوري المستعر منذ 2011 إلى الداخل اللبناني. لكن تطورات الأسبوعين الأخيرين تنذر بدخول بلاد الأرز في عين العاصفة من جديد ليس بسبب تداعيات استقالة سعد الحريري، التي أظهرت للعيان خلل التسوية العرجاء والغامضة التي سدت الفراغ الرئاسي في خريف 2016 فحسب، بل بسبب إصرار إيران على إلحاق لبنان بمحورها وتغاضي ما يسمى المجموعة الدولية عن هذا الواقع الذي يمكن أن يؤدي إلى إقحام لبنان في رقصة الفوضى التدميرية في الإقليم مما يجعل من كيانه كيانا قيد الدرس ويربطه بمآلات إعادة تركيب المنطقة.
على مدار تاريخ لبنان المعاصر كان هذا البلد الصغير ضحية لأزمات محيطه الجيوسياسي. بعد أزمة 1958 التي تزامنت مع نشأة الجمهورية العربية المتحدة، حسم جمال عبدالناصر، الرئيس المصري آنذاك، خياراته بدعم فكرة استقرار لبنان بعد لقائه مع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب تحت خيمة صفيح عند الحدود اللبنانية- السورية عام 1959، ما بلور نظرة متقاربة إلى دور لبنان في المعادلة العربية وفق عدم الانحياز وعدم الدخول في لعبة المحاور والاكتفاء بأن يكون دولة مساندة في الصراع مع إسرائيل مما جنبه تداعيات حرب 1967.
بيد أن الهزيمة العربية “الرسمية” وصعود المقاومة الفلسطينية انعكسا على لبنان مع إبرامه اتفاق القاهرة في 3 نوفمبر 1969 مع منظمة التحرير الفلسطينية ومنحها حرية العمل من لبنان، وكان الصاعق الفلسطيني السبب المباشر لإشعال حروب لبنان المدمرة بين 1975 و1990. ويمكن القول إن لبنان تحمل منذ 1973 العبء الأكبر في مواجهة إسرائيل وأصبحت أرضه ساحة تصفية الحسابات بين العديد من القوى الإقليمية والدولية، ودفع لبنان الأثمان الباهظة على أكثر من صعيد، بينما كان الغير يحقق “الأمجاد” من على ساحته إذ حصل ذلك مع “الثورة الفلسطينية” وجمهورية الفاكهاني، ومع النظام السوري الذي أبرز سياسته الخارجية من خلال السيطرة على لبنان، والآن مع إيران التي تعتبر لبنان مجالا حيويا ومركزا للثقل في مشروعها الإمبراطوري. وهذا بالطبع لا يعني أن لبنان كان بمنأى عن أهداف استراتيجية إسرائيل منذ نشأتها أو عن مصالح الدول الكبرى.
يتضح من خلال هذا السرد السريع لمجريات حقبة الحرب الأهلية و”حروب الآخرين” كما سماها غسان تويني في القرن العشرين، ومن خلال متابعة ما يجري على أرض لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، أن التوازنات اللبنانية الهشة لا تصمد أمام الاستحقاقات الإقليمية وأن تحييد هذا البلد (أو سياسة النأي بالنفس التي اعتمدت منذ 2011) يعتبر حيوياً للحفاظ على كيانه.
بالإضافة إلى هذا التحييد أو الحياد الايجابي ونوع من الحماية الدولية، كانت هناك دوماً تلك المظلة العربية التي حمت لبنان وأعادت إعماره ومنعت تهاويه، وقد تمثلت منذ اتفاق الطائف في 1989 بالمملكة العربية السعودية. بيد أنه منذ حرب 2006، ومنذ نجاحات المحور الإيراني في الاختراق الإقليمي بالتزامن مع نشأة تنظيم داعش، جرى التركيز على لبنان وجرى إيقاعه بالفراغ الرئاسي بين مايو 2014 وأكتوبر 2016 بهدف تغيير هويته ودوره. ولذا لم تكن التسوية التي أدت إلى سد الفراغ الرئاسي إلا تسوية فرض الأمر الواقع عبر انتخاب مرشح حزب الله من دون أخذ الضمانات حول موقع لبنان وابتعاده عن أزمات المنطقة. وربما طغت المصالح الحزبية على ما عداها في ترتيب سريع أرادوا من خلاله تكريس الغلبة وسلخ لبنان عن محيطه العربي.
بعد أقل من سنة على تأليف حكومة سعد الحريري تبين أنها لا تعمل وفق الحد الأدنى من التوازن وبرز ذلك في الخيارات الداخلية والخارجية، ووفرت هذه الحكومة الغطاء لكي يستمر حزب الله بلعب دوره كقوة إقليمية لصالح إيران ليس على الساحة السورية فحسب، بل وصولا إلى العراق والبحرين واليمن والكويت مما يضع علاقات لبنان مع الدول العربية في الخليج على المحك. وأخذ لبنان يدخل المحظور نظراً لحجم إسهام الخليج في اقتصاده ووجود أكثر من 300 ألف لبناني في دوله. ولذا لم يكن لهذه التسوية العرجاء التي كانت على حساب لبنان أن تستمر، وربما قرعت استقالة الحريري جرس الإنذار لمنع السقوط في الهاوية.
جرى التركيز على الاستقالة وظروف تقديمها، في قصد واضح للتعمية والالتفاف على أسبابها ومضمونها والإجابة عن السؤال المصيري بشأن مستقبل لبنان وكيفية إبعاده عن الحريق الإقليمي.