من إجبار سعد الحريري على مصافحة من تلوثت يداه بدم رفيق الحريري إلى الإستقبال السري العلني لعلي مملوك إلى اللحظة التي إستلم فيها الأمير محمد بن سلمان مقاليد الأمور في السعودية، والآذان السعودية المصغية للهمسات المسمومة للإخوة الأعداء في فريق 14آذار، نمت سلسلة طويلة من الإغتيالات، طالت سعد الحريري.
بدا وكأن الإغتيال يطبع سيرة هذا الرجل ويحددها وكأنه محكوم عليه أن يمارس السياسة من داخل غابة إغتيالات يشترك في تصميمها الحلفاء والأعداء.
يعاقب سعد الحريري الآن سعوديًا، ويعاقب كل لبنان معه، لأنه فشل أو لم يستطع أو لم يقبل أن يكون قاسم سليماني السعودية الجديدة، التي قررت فجأة أن ترتدي ثوبًا حربيًا عسكريًا دون سابق خبرة وتمرس، فجاء هذا الثوب كاريكاتوريا، ولما طلب من سعد الحريري إرتداءه في لبنان ورفض، كان الثمن الشروع في إغتياله، وترك لبنان نهبا لميليشيا مسلحة، نمت وترعرعت واشتد عودها تحت أنظار الجميع.
يغتال الإخوة في 14آذار الحريري لأنه أنتج تسوية أقصت بعض صقورها من واجهة الأحلام الرئاسية، فكان أن عادوا إلى سياسة النكايات والشخصنة فبات سعد الحريري من سلم البلد لحزب الله، وكأن إنتاج تسلط الحزب على البلد تأسس إنطلاقًا من اللحظة التي صاغ فيها الحريري تسوية المجيء بميشال عون رئيسًا.
لا شك أن هذه التسوية كانت نوعا من الوهم السياسي ولكن الحريري كان محتاجًا إليها كي يعود إلى رئاسة الحكومة وما كان ممكنا لها أن تتم دون قبول سعودي.
السعودية تحاكم الحريري الآن على فشل هذا الرهان الذي وافقت عليه، ولكنها لم تقدم أي بدائل ممكنة لسيناريو آخر، لم تستطع أن تضمن للرجل أمنه، ولا أن تخلق حركة مواجهة فعلية لحزب الله، ولا أن تؤمن الظروف المناسبة ولا المناخات الصحية لنشوئها.
إقرأ أيضًا: لبنان بين صدمتي الحريري وعون:العالم المنكفئ وإيران التوسعية
تطلب السعودية من مناهضي حزب الله أن يتحولوا إلى إنتحاريين مجانين في سياق يتطابق مع منطق الحزب نفسه، أي الموت للموت، وكأن المطلوب إشاعة العبثية التي كرسها الحزب الإلهي كسياق ختامي ينتطم المشهد اللبناني في داخله.
تأخذ السعودية على سعد الحريري عدم ركونه إلى مثل هذا الخيار في لحظة لم تنجح فيها في إستجرار الحلفاء، وتدفع مبالغ خيالية لتغطية صراعها مع قطر وتكاليف حربها اليمنية.
تجدر قراءة السياق الذي فجر الأزمات مع قطر الباحثة عن دور لم تقبل السعودية بمنحها إياه فانحازت إلى الطرف الذي يمنحها دورًا وهو الطرف الإيراني، ولعل عجز السعودية عن إستيعاب قطر يدل على عقم السياسة الخارجية، والذي سمح لإيران أن تكون حليفة دولة خليجية تمتلك حصيلة مالية هائلة، وترتبط مع دول كبرى بمعاهدات ومصالح ويمكنها تمويل حروب طويلة ومكلفة، دفعت السعودية بقطر إلى أحضان إيران في لحظة تريد فيها أن تقطع أذرعتها، فكان أن منحتها أذرعا جديدة تمتلك من المناعة المالية والنفوذ والفعالية في العالم قدرًا كبيرًا لا يمكن الإستهانة به.
كذلك يجدر طرح السؤال حول عدم قدرة السعودية على إستيعاب الحوثيين بينما نجحت إيران في جعلهم أكثر من حلفاء مرحليين بل شركاء في مصير واحد، ولعل رمزية إطلاقهم لصاروخ على الرياض برعاية إيرانية تؤكد أن تلك العداوة مع السعودية أصبحت راديكالية، وأن أي تفاهم يمكن أن يبرم سيكون تفاهمًا بين عدوين لدودين ينتظر كل منهما الفرصة ليعاود الإنقضاض على الآخر.
يعني ذلك أن السعودية ستبقى في حالة تأزم حتى في حال تم إنجاز إتفاق، لأن سياستها لم تفلح سوى في إحاطة نفسها بالأعداء وخسارة الحلفاء.
إقرأ أيضًا: حديثُ الفخّ الذي وقع في شراكه الرئيس الحريري والدكتور جعجع
الخسارة الأكبر التي تنتجها سعودية بن سلمان تتمثل في خسارتها لبنان سعد الحريري، فهذا البلد الصغير كان فرصة كبرى للسعودية التي تحاول الدخول في ركاب الحداثة لتغيير الصورة الراسخة عنها في العالم بوصفها بلدًا خارجًا عن زمن العالم ولحظته، لبنان سعد الحريري كان المدخل الأساسي الذي يمكن أن يسمح لها بمواكبة لحظة العالم وليس مجرد السماح بإحياء حفلات كاظم الساهر والموسيقي ياني في السعودية.
سعد الحريري كان يمثل مسلمًا حضاريًا ومعتدلًا يلائم مشهدية يرتضي العالم الإستثمار فيها وكان من شأن إستمرار الدعم السعودي له المساهمة في إخراج السعودية من بئر صورة التخلف التي لاتزال مسيطرة على التصور الغربي والعالمي لها.
أهملت السعودية في لحظتها الحربية الملتبسة هذا الإستثمار وأرادت جر الحريري إلى التطابق مع النموذج الإيراني.
ما لم تستنجه السعودية أن محاولة ضرب إيران بالتحول إلى إيران أخرى أو باعتماد نموذج إيراني ليس من شأنها سوى خلق إيرانات كثيرة ولعل هذا ما يجري في هذه اللحظة .
تتكاثر الإيرانات بهمة الإخوة الأعداء، والأعداء الأعداء الذين سنوا جميعهم سكاكينهم لذبح سعد الحريري ولبنانه الذي كان يمكن أن يشكل فسحة أمل باقية.