في عودته الأولى جاء ليجسّد تفاهمَ الـ«سين - سين» المغطى عربياً وسعودياً في لبنان، وفي عودته الثانية جاء ليجسّد تفاهمَ «تسوية صُنعت في لبنان». واليوم يعود الحريري بعد غيبته الصغرى الثالثة ليدشّنَ مرحلةً تحتاج لتسويةٍ داخلية غير مبلوَرة، وتكمن صعوبتُها في أنه لا يوجد في شأنها غطاءٌ عربي ولن تكون ممكنةً في غياب استعداد «حزب الله» لتقديمِ تنازلاتٍ فيها.
لم يعد خافياً أنّ هناك قوى وجهاتٍ حاولت رسمَ مرحلة لبنانية جديدة بعد 4 تشرين الثاني الجاري من دون الحريري. أصحاب هذه النظرية اعتبروا أنّ على الحريري أن يدفع ثمنَ «تسوية صُنع في لبنان» التي زيّنها للسعوديين عندما وصفها لهم بأنها ستبعد الرئيس ميشال عون عن «الحضن الإيراني» وتقرّبه من «الحضن السعودي»، وبعد عام من اختبار هذا الرهان ثبت أنها قادت الى نتائج عكسية.
وبعض هؤلاء كانوا من الذين أخذوا عليه خلال فترة العام الأول من عهد عون اقترابه من محور الوزير جبران باسيل على حسابهم. وكان بعض أصدقائه في دول الخليج نصحوه حينها، بأنّ عليه استدراك النتائج، عبر ترشيدِ إيقاعاتِ تموضعه داخل الاصطفاف الداخلي اللبناني، بحيث إنّ عليه التمترس في محور برّي ـ جنبلاط بدلاً من اقترابه في اتّجاه عون - باسيل.
رأيُ هؤلاء أنّ مشكلة الحريري تكمن في أنه لم يتّفق مع السعودية على تفاصيل حول طريقة إنجاح التسوية الرئاسية، بمعنى لم يثبّتا في مقاربتهما لها واجبات الرياض وحقوقها فيها في مقابل واجبات الحريري وحقوقه المتمثّلة بما يجب أن تقدّمَه له الرياض لإنجاحها. كانت بمثابة «صفقة عرب» قوامها: «جرّب وسنرَ».
يُفترض أن يصل الحريري اليوم الى باريس، لينتهي بذلك الشقّ العاصف من البعد الإقليمي لمشهد الاستقالة، وبالتتابع ليبدأ الشقّ العاصف الداخلي منها. هناك تصوّرٌ متداول في الوسط السياسي اللبناني، وهو أنّ الحريري دفع ثمن التسوية الرئاسية والمطلوب الآن أن يدفع الآخرون الثمن المتوجّب عليهم لإبقائها حيّة.
ثمّة مفاضلة مطروحة الآن بين سؤالين في هذا المجال، وهي: مَن هو الطرف الذي يجب على ضامني عودة الحريري لدى السعودية أن يطلبوا منه دفعَ ثمن استمرار التسوية: عون أم الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله؟
هناك تصوّر يرى أن موقفَ عون هو الذي سيحدد ما إذا كان في الإمكان إستيعاب النتائج الداخلية لأزمة الاستقالة. وما هو مطلوب من عون، وفق أصحاب هذا التصوّر، هو إظهار «خط غامق» بين الدولة وبين «حزب الله» على مستوى الموقف من أزمات الإقليم ومن قضية سلاح الحزب ومن كلّ مقولة «الشعب والجيش والمقاومة».
بمعنى آخر فإنّ مطالبة عون بإبداء قليل من التغيير في سلوكه الإقليمي والداخلي، أسهل وقد يترك انعكاساتٍ معتدلة على السلوك الإقليمي للحزب المهتمّ بإنجاح العهد العوني.
حتى اللحظة فإنّ ما يتسرّب من العناوين التي ستشكّل ماهية التسوية المنتظرة، غيرُ مشجّع لـ«حزب الله» أقلّه. فعلى ضفة الحريري يدور الحديث أنه سيعرض خمسة مطالب: تطبيق القرار 1701، وإلغاء مفاعيل تفاهم الدوحة (الثلث المعطل) والانسحاب من سوريا ومن أزمات المنطقة، والذهاب فعلياً الى إقرار إستراتيجية الدفاع الوطنية.
في المقابل ما يسرّب من كواليس الحزب عن خطتي «أ» و«ب» لاحتواء مرحلة ما بعد عودة الحريري ليس مطمئناً لـ«14 آذار»، وقوام الأولى إعادة تكليف الحريري وفي حال رفضه، يتمّ المضي بتسمية رئيس غيره مع رهان على أنّ الوقت سيستنزف حالة التعاطف معه. المآخذ على خطتي الحزب «الف» و«باء» أنهما تقنيّتان ولا تعالجان الأسباب السياسية للأزمة. ولكنّ هناك رهاناً على أنّ ما يسرّبه الحزب عن هذه الخطة، هو لجسّ النبض ولا يعكس حقيقة ما يفكر به.
ويدعم القائلون بهذا الرأي وجهة نظرهم بلفت الانتباه الى خطاب السيد نصرالله الأخير الذي لامس فيه فتح نوافذ سياسية لتسوية الأزمة عبر عرضه ثلاث أفكار طرحها خلاله: أوّلها «الإعتراف بأنّ للسعودية نفوذاً في لبنان»، والمعنى السياسي لهذه العبارة ينطوي على رسالة تقول إنّ الحزب يعترف بمصالح الرياض الوازنة في البلد، وهو مستعدّ للتعايش والتفاعل معها.
والفكرة الثانية أنّ الحزب يتفهّم وجودَ مسعى سعودي في لبنان يمارس ضغطاً عليه لتغيير سلوكه الإقليمي وليس القضاء على وجوده، لأنّ الهدف الأخير «سيقاتله وهو غير مطروح دولياً اصلاً، ولا يستطيع أحد تحقيقه». وفي هذه النقطة يعرض نصرالله على السعودية تلميحاً تنظيمَ الاشتباك السياسي الداخلي بينها وبين الحزب في لبنان، وهو أمرٌ يمكن لعودة الحريري أن تعبّر عن الرؤية السعودية داخل الحُكم وأن تجسّد معادلته.
والفكرة الثالثة التي مرّرها نصرالله في خطابه لمّحت الى أنّ ما بقي من عمر وجود «حزب الله» في سوريا هو قليل، لأنّ التسوية السورية - أو ما يعتبره انتصار النظام هناك - تقترب. وتدعو هذه الفكرة الى ابرام تسوية داخلية جديدة، تمنح الحزبَ وقتاً قليلاً لكي يأتي انسحابُه من سوريا متناسقاً مع وضع إقليمي انفراجي، بدلاً من استعجال اشتباك لبناني داخلي أو إقليمي على الساحة اللبنانية بسبب عنوان دور «حزب الله» في سوريا الذي أصبح عملياً في مرحلة ربع الساعة الأخيرة.
ما تقدّم أعلاه هو أكثر ما يظنّه المتفائلون بأنّ الحزب يستطيع تقديمه سياسياً كثمن لتسوية داخلية مع السعودية من خلال دور للحريري فيها. أما في شأن الاستراتيجية الدفاعية، فوقتها ليس الآن، ولكن قد يحين في ظلّ عهد عون الذي يطرح للنقاش مفهومَ دور للمقاومة ضمن استراتيجية الجيش اللبناني للدفاع عن الحدود الجنوبية.
وفي انتظار اكتشاف عمق ما كان يقصده نصرالله خلال خطابه الأخير، فإنّ الواضحَ منذ الآن أنّ الحزب لن يقبل بتسوية سياسية تُظهر أنّ الاندفاعة السعودية عبر استقالة الحريري حقّقت أهدافاً سياسية داخل لبنان، وسيمنع في الشكل اعتمادَ أيّ آليّات للحلّ تَشي بهذا المعنى، كتشكيل حكومة تكنوقراط، لأنّ الحزبَ يرى أنّ هذه الفكرة مصمَّمة خصيصاً لإبعاده من الحكومة، ولو بحجّة إبعاد الآخرين، أو أن يُصار الى إقامة طاولة حوار وطني، لأنّ توقيتَ عقدها الآن يُعَدّ ثمرةً لمناخ الشروط السعودية، ولأنها ستعوّض «القوات اللبنانية» عبر مشاركتها فيها عزلتها السياسية التي واجهت مقاربتها للمشهد الأول من استقالة الحريري.