هناك على المقعد الخشبي العتيق تجلس امرأة في العقد الخامس من العمر، يميل جسدها يمينًا ويسارًا، تتنقّل عيناها على طول الممرّ الذي يعجّ بعشرات "المُراجعين" لشكاويهم. تطبطب السيّدة بيديها على رجليها الرافضتين لوضعية الجلوس إلّا أنّ ساعات الإنتظار أرغمتهما على ذلك.
لا يسْلَم من جاور "أم علي" على المقعد من الإصغاء إلى سرد قصّتها مع درّاجتها الناريّة. تفتخر تلك السيّدة بأنّها "أخت الرجال" التي حوّلتها الأيام من سيّدة مدلّلة إلى "رجلٍ وامرأةٍ" في آن بعدما توفي زوجها بأزمة قلبيّة. لكنّ نقمتها على الأيام ليست أكبر من عتبها على الدولة "التي تركت كلّ شيء ولحقت بجيبها".
تروي الحاجة بغصّة وهي تفرك كفّيها الخشنتين المحفوفتين بقساوة الزمن، بأنّها حضرت منذ الصباح الباكر في محاولة لتخفيض محاضر الضبط العديدة المسطّرة بحقها والتي بلغت نحو مليون و700 ألف ليرة، وتبدي استغرابها من "ترك الدولة لكلّ الفوضى والأمور الهامة واللحاق بها وكأنّ ميزانية لبنان ستتموّل عند دفع مخالفاتها".
لا تخفي "أم علي" المتأرجحة بين الحزن والشقاوة أنّها خالفت القانون، وتردّد لقد لحق بي الشرطي وأنا أقود دراجتي كوني لا أضع الطاسة (الخوذة)... وقبل أن تتابع روايتها تتلفّت إلى الدركي المولج حماية إحدى قاعات المحاكم في قصر العدل وترسل نحوه قبلة في الهواء مع عبارة "يخليلي هالوج الحلو"، وما إن يتبسّم لها حتّى تعاجله بالقول "شو فكّرتا لإلك؟ هيدي لـ يلّي وراك".
"شرّ البليّة ما يُضحك"، تردّد صاحبة العباءة السوداء والحجاب البني، وبسؤالها عن سبب ارتفاع قيمة المحاضر تكشف أنها تراكمات كونها لم تسجل الدراجة وفقاً للأصول ولم تدفع الميكانيك وغيرها.. "بس أنا بدّي أنطر الريّس تا يخفضن قالولي أنو طيب وما حيكسفني أنا أرملة وعندي ولاد بدّي عيّشهم معقول بيعملولي ظبوطة قد راسي؟".
تمضي الساعات، أنهي أنا جولتي في قصر العدل، في جعبتي العديد من الخبريات، وما زالت خبرية الحاجة "أم علي" تدور في ذهني وأنا أسمعها من بعيد تعيد روايتها على مسامع كلّ من جلس بقربها وتقول "بدّي دراجتي عندي علية بدّي ربّيها".