بعد المقابلة التلفزيونية التي أطلق خلالها الرئيس سعد الحريري مواقف ادرجت على وجه الاجمال بأنها «ايجابية»، وانعشت الآمال بإمكانية معالجة استقالة الحكومة، التي حدّدت مكامن الداء في الأداء الرسمي، سواء في توازنات التسوية السياسية، أو النأي بالنفس، والابتعاد الفعلي عن الأزمات العربية، والنأي بالنفس، لا سيما بالنسبة لحزب الله الذي يتولى بالنيابة عن إيران «ادارة معارك» أو المساهمة مباشرة بالعمليات العسكرية، من سوريا إلى العراق إلى اليمن، عبر إطلاق الصواريخ على الداخل السعودي، وتهديد المصالح الحيوية للمملكة، بقصف مطار الملك خالد الدولي، وتهديد مصافي النفط والمنشآت المدنية والاقتصادية.
ما قاله الرئيس الحريري في مقابلته كان واضحاً وجازماً: التسوية السياسية قائمة، والعودة إلى بيروت قريبة، وتقديم الاستقالة سيحصل وفقاً للأصول، لكن المرحلة السابقة لا يمكن الاستمرار بها..
وما لم يوضحه الرئيس الحريري مباشرة، اوضحه عضو كتلة «المستقبل» النائب عقاب صقر الذي أشار إلى ان التسوية الماضية تغيرت تماماً، وانتهت شروط تسوية الدوحة، وعلينا ان نبحث عن تسوية جديدة، والرجوع عن الاستقالة ممكن بتوفر شرطين في سلاح حزب الله: يكفي التصريح بأنه سينسحب من العالم العربي عسكرياً وامنياً ويبدأ الخطوات، وأنه سيعلن العودة إلى طاولة الحوار لبحث قضية سلاحه.
كيف تعاملت بعبدا مع الموقف الجديد؟
الأوساط السياسية سجلت تعاطياً سلبياً مع المنحى الذي فتحته مقابلة الرئيس الحريري، تقول الأوساط نفسها لـ«اللواء»: بدل ان يلاقي فريق رئيس الجمهورية الأجواء الهادئة والإيجابية للمقابلة وتوجهات من كان يتكلم خلالها، والذي وجّه إشارة طيبة للرئيس ميشال عون، عند منتصف الطريق، ويعلن الاستعداد للبحث في اسبابها وتدارك الضرر الذي يصيب لبنان من تأزم العلاقات مع محيطه العربي لا سيما الخليجي والسعودي، ذهب باتجاه صادم، طرح أسئلة حول المصلحة الوطنية في توريط البلد مع المملكة العربية السعودية؟
فزوار بعبدا ينقلون عن رئيس الجمهورية ان «الحملة الوطنية والدبلوماسية التي خاضها لبنان من أجل جلاء الغموض حول وضع الرئيس الحريري في المملكة العربية السعودية اعطت نتائجها الايجابية».
وتساءلت الأوساط ماذا يتضمن هذا الموقف: هل يتضمن إشارة، وصفتها الأوساط العربية، بأنها «استفزازية» للمملكة، ان الضغط عليها نجح، وهي كانت «تحتجز رئيس الحكومة؟».
وهذا مجاف للحقيقة، ولا يتفق مع معطيات الاستقالة التي تحدث عنها صاحبها في البيان الذي اذاعه مباشرة عبر شاشات التلفزة..
وتتساءل هذه الاوساط: لماذا يدفع فريق الرئيس إلى استكمال الحملة ضد المملكة؟ وما المصلحة الفعلية في ذلك؟! وتقول هذه الأوساط بدل ان يُطلق فريق الرئيس المبادرة بحكم علاقته المتينة مع «حزب الله» للبحث في وقف تدخله في اليمن وغيرها، تراه يمضي في طريق لا يخدم معالجة الاستقالة ولا ظروفها أو مسبباتها..
وعشية سفره اليوم إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي عمانويل ماكرون، عاد الوزير جبران باسيل إلى الحديث عن عودة الرئيس الحريري بحرية إلى لبنان حيث يمكنه الإعلان عمّا يشاء، في إيحاء غير بريء بأن ما أعلنه الرئيس الحريري في المقابلة التلفزيونية لم يكن من زاوية «حريته الكاملة» في إعلان ما يشاء، وهذا تعريض إضافي بالمملكة..
ولم يقف باسيل عند هذا الحد، بل حدّد غداً الأربعاء موعداً لعودة الحريري، وهو الأمر الذي يقرره حصراً الرئيس الحريري..
وهذه التساؤلات العربية المقبلة، لم تخفها دوائر بعبدا التي فضلت «التريث»، معتبرة ان «السعوديين لم يقولوا كلمتهم بعد»، خالصة إلى ان الأزمة لم تنته بعد، على الرغم مما وصفته بالايجابيات التي تتقدّم على السلبيات.
وفيما رجحت مصادر مطلعة ان يعود الرئيس الحريري إلى بيروت قبل نهاية الأسبوع، اتجهت الأنظار إلى اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية الأحد المقبل في القاهرة لمناقشة التدخلات الإيرانية في القضايا العربية، واتخاذ موقف من هذا التدخل، والموقف الذي يمكن ان يتخذه لبنان، لجهة «النأي بالنفس» أو امتناع وزير الخارجية عن حضور الاجتماع تجنباً للاحراج، والاكتفاء بإرسال مندوب.
وسيكون هذا الموضوع مدار مناقشة بين الرئيسين عون والحريري قبل انعقاد الاجتماع.
تجدر الاشارة إلى ان «حزب الله» لم يعلن موقفاً مما قدمه الرئيس الحريري من مخارج للأزمة، والحزب معني بها بصورة مباشرة.
ترقب.. وارتياح
وأكدت مصادر سياسية مطلعة لـ«اللواء» ان أولوية الأولويات لدى الرئيس عون في هذه المرحلة هي عودة الرئيس الحريري، مشيرة إلى انه (أي عون) ذكر ذلك منذ اليوم الأوّل وأصر عليه، وهو ينتظر الآن عودة الحريري التي قال انها ستكون قريبة للبحث معه في ملف إعلان الاستقالة.
وفيما توقعت المصادر السياسية، ومنها وزير الخارجية جبران باسيل، ان تتم هذه العودة قبل العرض العسكري المركزي في وسط بيروت، في حضور الرئيس عون وأركان الدولة، فإنها سجلت ارتياح رئيس الجمهورية لما ورد في مضمون كلام الحريري، ولا سيما بالنسبة للتمسك بالدستور بما خص تقديم الاستقالة، وما ألمح إليه في ما خص العودة عن الاستقالة، كما بالنسبة لاستمرار التسوية، في حين ان الكلام عن النأي بالنفس يحتاج إلى توضيح، وهو ما سيكون حاضراً في لقائهما.
وفي عين التينة، اكتفى الرئيس برّي بالقول في معرض رده على إمكانية عودة الحريري عن استقالته ان «العدول عن الاستقالة فيه عدالة»، معرباً عن انطباعه بأن الرئيس الحريري سيعود إلى بيروت وسيكون بين أهله وشعبه.
اما كتلة «المستقبل» التي اجتمعت استثنائياً أمس في «بيت الوسط» برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة فقد توقفت بارتياح كبير امام إعلان الحريري عن عودته إلى بيروت في غضون الأيام المقبلة، ورأت في ذلك بشارة طيبة بشأن طبيعة المرحلة القادمة بما يجعلها تتطلع إلى ان تكون في مصلحة لبنان، ولا سيما لجهة التقدم على مسار تصحيح علاقات لبنان الخارجية مع أشقائه العرب.
ورأت الكتلة كذلك، بحسب ما جاء في البيان الذي أصدرته، في اطلالة الرئيس الحريري، اطلاقة رجل دولة، كونها أعادت تأكيد مكانته المميزة في المعادلة الوطنية اللبنانية، فضلاً عن انها رسمت خطوطاً واضحة ومسؤولة بشأن المسار المطلوب اتباعه من أجل إخراج لبنان من لعبة المحاور الإقليمية والدولية، وتحديداً لجهة التأكيد على الالتزام بسياسة النأي بالنفس عن الصراعات والحروب الدائرة في المنطقة، بما في ذلك رفض كل اشكال التدخل الإيراني وادواته في الشؤون الداخلية لجميع البلدان العربية الشقيقة.
ولوحظ ان بيان الكتلة تجنّب الإشارة إلى الاستقالة أو العودة عنها، لكن مصادر في تيّار «المستقبل» أبلغت «اللواء» ان لا عودة عن الاستقالة طالما ان الأمور ما تزال كما هي بالنسبة لسلاح «حزب الله» وتدخلاته في عدد من الدول العربية، مشيرة إلى ان لبنان لم يعد باستطاعته الاستمرار بقبول بقاء سلاح «حزب الله» متفلتاً في الداخل، ولا يمكن السماح لإيران بعد الآن بأن تتعامل مع لبنان وكأنه منصة وقاعدة لها لمحاربة العالم العربي.
وفي دار الفتوى، اعتبر مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي خص الرئيس الحريري بتحية، ان حديث الحريري المباشر من بلده الثاني في المملكة العربية السعودية شكل ارتياحاً لدى اللبنانيين وتفاؤلاً بعودته قريباً خلال الأيام المقبلة، ودحض كل الإشاعات والتأويلات التي انتشرت في لبنان والعالم وهو بين أهله وإخوانه في الرياض».
الراعي في الرياض
في هذه الاثناء، حط البطريرك الماروني بشارة الراعي، في أرض المملكة في زيارة تاريخية، بحسب وصف القائم بالأعمال السعودي في بيروت وليد بخاري، باعتباره أوّل بطريرك ماروني يزور المملكة منذ تأسيسها، حيث سيلتقي اليوم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ثم ولي عهده الأمير محمّد بن سلمان الذي سيقيم مأدبة غداء على شرفه والوفد المرافق، كما سيلتقي الرئيس الحريري قبل ان يغادر الرياض متوجها إلى روما.
وخلافاً للتوقعات، لم يكن الرئيس الحريري في استقبال الراعي لدى وصوله إلى قاعدة الملك سلمان الجوية في الرياض، كما لم يحضر حفل الاستقبال الذي أقيم على شرفه في السفارة اللبنانية وذلك لأسباب بروتوكولية، في حين كان في استقباله وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان الذي عقد مع الراعي لقاء ثنائياً، قبل توجهه إلى مقر اقامته.
واعرب الراعي في مطار بيروت عن اطمئنانه وارتياحه لما قاله الحريري في اطلالته التلفزيونية، معتبرا انه أجاب على كثير من التساؤلات لدى اللبنانيين، وفتح افاقاً جديدة ومهمة، آملاً ان تتحقق هذه المواضيع بأسرع ما يمكن.
ووصف الصداقة بين المملكة ولبنان بالتاريخية وقال ان المملكة لم تخذل لبنان مرّة، وهي وقفت إلى جانب لبنان في جميع الأوقات، موضحا انه على الرغم من الأزمات تبقى علاقة الأخوة تجمع لبنان والسعودية التي كانت حاضرة دائما في أزمات لبنان الاقتصادية والسياسية، مؤكدا ان لبنان لا يزول طالما التعايش الإسلامي - المسيحي قائم.
الجامعة العربية
في سياق دبلوماسي، نفت مصادر رسمية لـ «اللواء» ما يتردد حول الضغط لسحب عضوية لبنان من جامعة الدول العربية، بشكل قاطع، ولاحظت انه بالعكس لما يتردد فإن اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم الأحد، قد يكون جزءا من مسار عربي مواز للنأي بلبنان عن الصراع الحاصل في المنطقة، عبر تلقف الوزراء العرب للأزمة الحالية ومباشرة العمل على حلها، بما يعني ان مواجهة إيران، حسب ما تطالب به السعودية لوقف تدخلها في شؤون المنطقة، ستكون انطلاقا من الجامعة العربية وبموقف عربي موحد.
ارتياح أوروبي ومبادرات
على ان الارتياح الذي اشاعته مواقف الرئيس الحريري في مقابلته التلفزيونية أمس الأوّل، لم تقتصر على الداخل اللبناني رسميا وسياسيا وشعبيا، بل شمل ايضا المنتديات الدولية ولا سيما الأوروبية، حيث حضر الوضع اللبناني في اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل التي يزورها الوزير باسيل اليوم للقاء نظيرته الأوروبية فيديريكا موغريني، بعد ان يستقبله اليوم ايضا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في قصر الاليزيه في باريس.
وعشية اللقاء، أصدرت الرئاسة الفرنسية بيانا سجلت فيه بعض الانفراج بعد مداخلة الرئيس الحريري مساء الأحد، مشيرة إلى ان الخروج من الأزمة الحالية يمر بعودة الحريري إلى لبنان وتمكينه من تقديم استقالته إلى رئيس الدولة، في حال كان راغباً بالفعل بالاستقالة، ما لم يكن قد غير رأيه منذ ذلك الوقت.
وشدّد البيان على ان فرنسا ضد كل التدخلات في الأزمة اللبنانية، خاصة وأن هذه التدخلات لا تأتي فقط من بلد واحد.
ولفت بيان الاليزيه إلى انها ستبقى يقظة جداً، وسنرى ما سيحصل بالفعل خلال الأيام المقبلة، وسنواصل أخذ المبادرات التي نفكر فيها خلال مستقبل قريب، خصوصا بالتعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة.
الا ان البيان لم يشر إلى طبيعة هذه المبادرات التي قال انها «تبقى مرتبطة بتطور الأزمة طالما ان الأمور تتحرك كثيرا، علما ان موضوع التوجه إلى مجلس الأمن «لم يتم بعد الدخول في تفاصيله».
وجاء البيان الرئاسي الفرنسي في أعقاب اجتماع الرئيس ماكرون بالامين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرس، اللذين تطرقا، بحسب الاليزيه، إلى المبادرات التي يتوجّب اتخاذها لطمأنة اللبنانيين وضمان الاستقرار في لبنان وحمايته من التأثيرات الإقليمية التي يمكن ان تكون مزعزعة للاستقرار، فيما أعلن المتحدث باسم غوتيرس انه لا توجد طريقة لتأكيد طبيعة وجود الحريري في السعودية.
وكان وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان قد دعا من بروكسل إلى «عدم التدخل في شؤون لبنان».
وقال عند وصوله إلى الاجتماع مع نظرائه الأوروبيين في بروكسل «لكي يكون هناك حل سياسي في لبنان، يجب أن يكون لكل من المسؤولين السياسيين بالتأكيد حرية حركة كاملة، وأن يكون عدم التدخل هو المبدأ الأساسي».
وشدد على أن الحريري «حتى هذه اللحظة، يعلن أنه حر في التحرك، وليس لدينا ما يدعو إلى عدم تصديقه».
ولاحقا، اوضحت الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أنييس روماني إسباني، «أن الدعوة إلى عدم التدخل موجهة إلى كل الأطراف الإقليميين الضالعين في الأزمة اللبنانية».
وقالت في بيان عبر البريد الإلكتروني «نرغب في أن يسمح كل هؤلاء الذين يمارسون نفوذا في لبنان للأطراف السياسية في هذا البلد بممارسة مسؤولياتهم بشكل كامل».
وأعلنت موغيريني في ختام اجتماع وزراء الخارجية ان «الاتحاد الأوروبي يطالب بالا يكون هناك أي تدخل خارجي في لبنان»، وقالت: «لا نريد أي تدخل خارجي في لبنان، ونعتبر انه من الضروري تجنّب استجلاب نزاعات إقليمية وتفاعلات إقليمية وتوترات إقليمية إلى لبنان، ولا بدّ من ابقائها خارج هذا البلد».