هي إذن لم تكن استقالة جدية. بل يمكن التراجع عنها، ويمكن التفاهم حول شروط سحبها. كانت خطوة تقع ما بين الاعتكاف الذي حفل به تاريخ لبنان السياسي، وشكل ملاذاً آمناً لمختلف رؤساء الحكومات السابقين، وبينهم الراحل رفيق الحريري، وما بين الاحتجاج الذي يلجأ إليه المسؤول في لحظات الحصار أو العجز، ويترك الحكم عليها للرأي العام أو للشارع.. أو للتاريخ.
في المقابلة التلفزيونية، قال الرئيس سعد الحريري صراحة بإمكان تراجعه عن الاستقالة، قبل أن تصل إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي لم يعترف بها، ولا بكل ما قاله رئيس حكومته من "محبسه" الافتراضي في الرياض.. وعبر عن شعوره بالصدمة جراء السلوك السعودي المفاجئ تجاهه، شخصياً، وتجاه عهده الذي سبق أن حصل على مباركة المملكة من دون أن يحوز على بركتها.
ولا شك أن تلك "الصدمة" الرئاسية كبرت بالامس عندما أطل الحريري مرة أخرى على شاشة التلفزيون، قبل أن يظهر في قصر بعبدا، وعندما صنف استقالته أيضا كـ"صدمة إيجابية"، للعهد أولاً، كما لبقية الشركاء في الحكم، لا سيما حزب الله، هدفها الحث على إعادة التفاوض على التسوية السياسية التي انتجت الرئاسة والحكومة الحالية، وتعديل شروطها وبنودها.
المرجح أن الرئيس عون الذي تأكد، كما بقية اللبنانيين، أن الحريري لم يكن في الأسر ولا ربما في الاقامة الجبرية، بات يميل الآن إلى التعامل بجدية مع الاستقالة وبات يرغب في قبولها، حتى قبل أن "ينسق" مع الحزب ويتفقا على موقف رسمي واحد من تلك "الصدمة الايجابية"، التي لم تكن تخطر ببال أحد، وأثارت رعباً لبنانياً لم يسبق له مثيل إلا في زمن الحروب الكبرى.
بدد الحريري في مقابلته التلفزيونية كثيراً من ذاك الرعب الذي ساد البلد طوال الاسبوع الماضي، وبلغ حد الترقب لموعد إندلاع الحرب المقبلة، وإذا ما كانت ستأتي من العدو الاسرائيلي، أو من الداخل، أو من الشرق.. وتجاوز حد التكهن بشكل إنهيار الدولة وتفكك المجتمع وتدهور الاقتصاد. أوحى الحريري نفسه أن الاستقالة لا تعدو كونها مناورة سياسية، نفذت بإتقان، وشارك فيها السعوديون والاميركيون والفرنسيون، وكادت الخدعة تنطلي على عرب وأجانب كثيرين، خافوا فعلاً على مستقبل لبنان، وعبروا عن هذا الخوف بصدق شديد.
لكن نجاح تلك المناورة، البارعة حقاً، هو أمر آخر. القياس هنا يعتمد على طريقة تلقي العدو أو الخصم المستهدف منها تفاصيلها وإشاراتها، ومطالبها. ثمة اجماع على أن طلب "النأي بالنفس" تحول إلى مزاح لبناني ثقيل. وإذا لم يدرك الحريري ذلك حتى الآن، فإن حزب الله لن يغضب ولن ينفعل، بل سيراوده شعور بالعطف من جهة، واللامبالاة من جهة أخرى، وسيمضي في مسيرته القتالية بوصفه لاعباً رئيسياً يساهم في رسم خريطة الاقليم، حسب تعبير قادته وتقديرهم المبالغ به.
الحديث هنا لا يدور عن سوريا فحسب، أو عن العراق. فالخروج من البلدين هو انتحار للحزب، أو بالحد الادنى إنكسار شديد، حتى ولو جاء ذلك بطلب رسمي من روسيا وتحت عنوان "خفض التوتر"، والتمهيد للحل السياسي، وهو ما يترقبه الحزب، ويمهد له بالقول إن الحرب السورية إنتهت الى نصر جديد. بالتالي، لم تعد هناك حاجة إلى بقاء قواته في سوريا. ثمة عنصر حاسم ساهم كما يبدو في بلورة تلك "الصدمة"الحريرية، على هذا النحو المسرحي المثير، هو حرب اليمن، التي أكد الحريري نفسه أنها كانت الحافز الاهم لتشديد الموقف السعودي والخليجي من حزب الله.
قد يكون هذا هو المطلب الابرز، الذي تلح عليه "الصدمة" الحريرية، لا سيما بعدما باتت كفاءات حزب الله الصاروخية وواردات إيران البالستية إلى اليمن تشكل تهديداً خطيراً لحرية الملاحة في باب المندب والبحر الاحمر، كما لأمن العاصمة السعودية نفسها.
وإذا لم يستجب حزب الله لهذا المطلب، وهو لن يستجيب، عندها فقط تصبح الاستقالة لا رجعة عنها، وتفقد "الصدمة" الحريرية طبيعتها الايجابية.