بخلاف ما توقعه كثيرون كانت إطلالة الرئيس سعد الحريري. في التقييمات، انقسم اللبنانيون إلى أكثر من قسم، وفي التفسيرات، فتحت المقابلة الباب على آلاف الأسئلة الجديدة والتحليلات. من حيث الشكل، لم تكن المقابلة على قدر التوقعات. لم يلجأ الحريري إلى تصعيد اللهجة، ولا إلى تصعيد الموقف، حتى أنها تتناقض تماماً مع مضمون بيان الاستقالة ولغته. وهذا أيضاً يفتح المجال أمام تساؤلات عدة. إذ إن الحريري أصر على أنه كتب بنفسه بيان الاستقالة لإحداث صدمة إيجابية، لكن مضمون إطلالته التلفزيونية، لم تكن منسجماً مع ذلك الخطاب.
في الانقسام التقديري لمقابلة الحريري، فإن البعض يعتبر أن هذه هي شخصية الرجل، التي لا تسمح له بالتصعيد ولا بالصراخ ورفع السقوف، باعتباره يفضّل الهدوء، وهذا هو أسلوبه، لكنه وضع سقفاً سياسياً لا يمكن التراجع عنه، وهو شعار النأي بالنفس والالتزام به، لإعادة البحث في تصويب التسوية التي أصر على التمسك بها. فيما البعض الآخر، يعتبر أنه تراجع، وهذا قد يعود لعدم اقتناعه بالاستقالة، أو لعدم توافر أجواء دولية للتصعيد الذي بدأ قبل أسبوع.
أكد الحريري أكثر من مرّة أنه سيعود قريباً إلى لبنان. وهو مهّد لهذه العودة من خلال الهدوء الذي أظهره، ومن خلال عدم رفع السقف، وإشارته مراراً إلى أنه حريص على التسوية والاستقرار في البلد. أما عدم تصعيده الموقف بوجه حزب الله، فبعكس ما قد يعتبره البعض أنه تراجع، هناك من يرى فيه تمهيداً للعودة إلى لبنان، وترك الباب مفتوحاً أمام إعادة إنتاج التسوية. بالتالي، يكون قدّ مهّد طريق عودته بتجنّب التصعيد، وقوله إنه مستعد للحفاظ على التسوية بشرط الالتزام بالنأي بالنفس، وبالشروط التي تفرض عدم تدخّل أي فريق لبناني في شؤون الدول العربية. وهو استند في هدوئه أيضاً إلى تمرير رسالة أساسية، بأنه يريد العودة إلى البلد، ولكن حين يضمن الحفاظ على سلامته وحياته. لذلك، يجوز ربط الهدوء بالتمهيد للعودة الآمنة.
كرر الحريري أن مصلحة لبنان تتجلى في النأي بالنفس. وأشار إلى ضرورة التمسك بها، لإعادة إنتاج التسوية. وفي معرض تأكيده أنه حين سيعود إلى لبنان لتأكيد استقالته، مرر رسالة أساسية بطريقة هامشية، وهي أنه قد يكون مستعداً للتراجع عن الاستقالة، إذ ما التزم الطرف الآخر بشروط معينة، أساسها النأي بالنفس وعدم التورط في الصراع في المنطقة، وبعدم الانخراط بسياسة المحاور. ويتضح من خلال هذا الموقف، حرص الحريري على الخروج بموقف، يعطيه صورة متمايزة عن التصعيد السعودي. وهذا لزوم الإلتزام بكلامه عن رفض ربط لبنان بسياسة المحاور، ورفض أي تدخل خارجي في شأنه. فكان لا بد من إظهار هذه المسافة، واتخاذ موقف هادئ. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فإن الحريري يعرف جيداً أن بلوغ التصعيد أقصى مراحله، فهذا لن يخدمه على المدى البعيد، وهو حريص على الاحتفاظ بدوره السياسي، وعدم إنهاء نفسه سياسياً.
مقابل هذه التقديرات لإطلالة الحريري وموقفه، ثمة من يخرج بمقاربة أخرى، ويعتبر أن الحريري أصر على الخروج بهذا الموقف الهادئ، لأجل إجبار رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره مع حزب الله وقوى الثامن من آذار، للإشادة بمواقفه، وهم كانوا قد اعتبروا قبل حصول اللقاء بأن كل ما يصدر عنه لا يعتد به، باعتباره مخطوفاً، بما أن توقعاتهم كانت أن الحريري سيخرج مصعداً إلى أقصى الحدود. بالتالي، قد يكون لجأ إلى أسلوب الهدوء ليس لاحتفاظ بدوره والتمهيد لعودته، بل ربما لأجل الإلتفاف على الجو الذي عمم مؤخراً بأن الحريري مخطوف، وسيخرج بمواقف تصعيدية بناء على التوجيهات السعودية. وهذا ما تقصّد الحريري نسفه وإثبات عدم صوابيته.
ولكن، بمعزل عن التفسيرات، يمكن اختصار مقابلة الحريري بعنوان أساسي، هو تأكيده على الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة رغم الحفاظ على التسوية، وقد حافظ على علاقته بعون، ولم يستفز أي طرف، وأظهر نفسه في موقع من يريد مصلحة البلد والبحث في المخاطر التي تحيط به، والتمسك بالتسوية ولكن بشروط أخرى، أبرزها حواره مع عون لإعادة الإلتزام بما جرى الإتفاق معه عليه قبل انتخابه رئيساً للجمهورية، وخروج حزب الله من اليمن، وتصحيح السياسة الخارجية للبنان.