الالتباس في مواقف البيت الأبيض والخارجية يتخطى التنافس التقليدي بين المؤسسات ويدفع إيران للتمادي
 

تقود الخلافات بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية الولايات المتحدة إلى التباس في المواقف تجاه حرب باردة يجري تسخينها بين السعودية وإيران، تجعل من الولايات المتحدة تبدو للمسؤولين في الشرق الأوسط عدة دول متصارعة، كل منها لديها مصالح متناقضة مع الأخرى، وجميعها تتنافس من أجل تحقيقها.

ولم يعد الأمر مقتصرا، كما جرت العادة، على الخلاف الطبيعي بين اتجاهات سياسية في دولة مؤسسات كبرى. ويقود وزير الخارجية ريكس تيلرسون خطوات التباعد عن رؤية البيت الأبيض، نحو المزيد من الحذر المبالغ فيه تجاه مواقف الرياض الحادة في مواجهتها لطهران وأذرعها في المنطقة.

والموقف من إيران هو امتداد لصراع بيني جوهره العودة إلى السياسة الكلاسيكية الأميركية في المنطقة، أو اتخاذ خطوات أكثر مرونة وبراغماتية واتساقا مع مصالح الحلفاء التقليديين، وعلى رأسهم السعودية.

وانسحب هذا الصراع على ملفات ذات طبيعة حساسة في علاقات الولايات المتحدة مع القوى المنافسة لها، سواء في محاولات الرئيس دونالد ترامب التقارب مع روسيا، أو رؤيته لإدارة الصراع مع كوريا الشمالية، أو مواقفه من أزمة المقاطعة العربية لقطر.

ويقول دبلوماسي غربي لـ”العرب” إن “أزمة إيران وضعت قادة الشرق الأوسط لأول مرة أمام واقع جديد في واشنطن، ينهي مرحلة توزيع الأدوار بين المؤسسات بحثا عن نقطة التقاء بينها، ويبدأ مرحلة العمل بشكل أحادي اعتمادا على المواجهة المباشرة”.

ولم تتغير المؤسسات الأميركية الأخرى، لكن البيت الأبيض هو الذي تغير. فالرئيس ترامب يبدو مستعدا لمحو إرث سلفه باراك أوباما بسرعة تفتقدها المؤسسات الأميركية، وعلى رأسها وزارة الخارجية التي مازال موقع القرار فيها مسيطرا عليه من قبل دبلوماسيين صعدوا في عهد أوباما، بعدما أظهروا توافقا يصل إلى حد التطابق مع فلسفته للمنطقة.

ولا تعير هذه الفلسفة اهتماما كبيرا لمحاذير دأب محور الاعتدال التقليدي على طرحها في جدل ازداد حدة في عهد أوباما، وترى أن “استقرار” المنطقة يكمن في منح رؤى دينية متشددة فرصة لإزاحة النزعات القومية. ويشمل ذلك إيران وحلفاءها، بالإضافة إلى الإخوان المسلمين.

واليوم تتبنى واشنطن، التي لها قوات في سوريا والعراق، موقفا وضع الفاعلين في المنطقة في حيرة كبيرة، إذ لا يوجد مانع داخل الإدارة من إبداء تساهل تجاه المواجهة، التي يصر عليها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع إيران، في منطقة تعاني من الاضطرابات.

لكن تيلرسون، مدفوعا بمواقف أكثر تحفظا في وزارته، وظف ثقله السياسي باعتباره ثالث أكبر مسؤول في الإدارة، لكبح براغماتية ترامب وجنرالات كبار أبدوا فهما أعمق لظروف المنطقة والتباساتها.

ودعت وزارة الخارجية الأميركية، الخميس، إلى وصول المساعدات الإنسانية إلى اليمن دون عقبات بعد أن أغلقت السعودية منافذ هذا البلد لوقف تدفق السلاح إلى المقاتلين الحوثيين المتحالفين مع إيران. وبعد ذلك بيوم أوضح تيلرسون أنه مازال يعترف بسعد الحريري رئيسا لوزراء لبنان، بعد أن أعلن بشكل مفاجئ استقالته من الرياض في الرابع من نوفمبر، التي تضمنت تأكيدا بأن لبنان صار دولة حزب الله.

وقال بول سالم، كبير نواب رئيس معهد الشرق الأوسط بواشنطن، إن تيلرسون “لا يتفق مع الموقف السعودي في وصف الدولة اللبنانية بأنها رهينة لحزب الله”.

وأضاف أن تيلرسون “يشير أيضا إلى الإسرائيليين.. بأن هذا ليس الوقت المناسب لمواجهة لبنان”، في إشارة إلى المخاوف التي تشعر بها إسرائيل منذ فترة طويلة بشأن تنامي القوة العسكرية لحزب الله.

ودوافع تيلرسون هي الحفاظ على أكبر قدر مما حققته الولايات المتحدة في مساعيها لإبطاء صعود صاروخي لروسيا في الشرق الأوسط، عبر إبقاء الوضع على ما هو عليه. لكن هذه النظرة لا تضع في الاعتبار تحديات تواجه القوى الإقليمية، خصوصا السعودية التي باتت ترى في نفوذ إيران خطرا وجوديا على العراق وسوريا الكبرى والخليج.

ولم يصرح أحد في المنطقة إلى الآن بأنه مع إشعال حرب غير محسوبة العواقب، لكن التناقضات التي تأتي من واشنطن قد تقود في الوقت ذاته إلى تراجع الثقة في وجهة نظرها كأحد أعمدة الحل الأساسية لصراعات المنطقة.

وتقول مصادر في واشنطن إن “كبار الدبلوماسيين في وزارة الخارجية يعرفون أن لبنان انتهى كدولة في صراع بطيء وطويل الأمد على السيادة مع حزب الله، لكنهم لا يريدون الاعتراف بذلك الآن”.

ولا يؤشر انتصار الحزب في هذ الصراع على قوته، بل على ضعفه. فالحزب غارق في مستنقع سوريا وفي أزمة اقتصادية ناجمة عن تكاليف باهظة للرعاية الطبية لمصابيه، الذين وصل عددهم إلى الآلاف، إلى جانب تكاليف رعاية أسر قتلى بالمئات سقطوا خلال سبعة أعوام من الحرب هناك.

وكلما أصبح حزب الله أضعف كلما ازداد اعتماده على إيران، وكلما انصاع أكثر إلى الأوامر الآتية من طهران. ويعكس ذلك حقيقة أن الحزب بات مستعدا أكثر اليوم للخوض في مغامرة ضد السعودية وحلفائها.

وبدت بوادر ذلك في صورة صاروخ باليستي استهدف مطار الملك خالد في العاصمة السعودية الرياض في 5 نوفمبر الماضي. واتهمت السعودية الحزب بالوقوف وراء إطلاقه من الأراضي اليمنية.

ويقول محللون “إن لم تصل مؤسسات الولايات المتحدة إلى حلول وسط في ما بينها، فسيهدد ذلك بتبني حلفائها في المنطقة حلولا فردية. التجاهل يولد تجاهلا مضادا”.